قال رحمه الله: وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف الله تعالى، وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباق، وشقاوة بسعادة.
من طلب الآخرة يترك الدنيا عباد الله، ومن طلب الدنيا ترك الآخرة، والله عز وجل جعل العباد مهيئين بفطرتهم للخير والشر، كما قال عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10].
وبين الله عز وجل للناس طريق الهداية وطريق الضلال، كما قال عز وجل: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وهذه هداية البيان عباد الله.
وكما قال عز وجل: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت:17]، فالعبد مهيأ بفطرته للخير والشر، والله عز وجل أنزل الكتب وبعث الرسل فصار العباد كأنهم يختارون أحد شيئين: إما أن يشتروا الضلالة بالهدى، أو يشتروا الهدى ويبيعون الضلالة، لأن الهدى والضلال لا يجتمعان، قال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16] فلما كان الإنسان ميسر إلى الأمرين بطبيعة الخلقة وبتيسير الله عز وجل وتبيين الله عز وجل للناس الخير من الشر، صار من يختار الهدى كأنه يبيع الضلالة، ومن يختار الضلالة كأنه يبيع الهدى، كما قال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة:16]؛ أي: فازوا بالتجارة الخاسرة والبائرة.
{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] أي: إلى أساليب التجارة الناجحة.
فطوبى لمن خاف لله تعالى وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباق، وشقاوة بسعادة.
الدنيا كلها عباد الله! لا تعدل عند الله عز وجل جناح بعوضة، ولو كانت تساوي جناح بعوضة ما سقى الله عز وجل منها كافراً شربة ماء.
من تدبر حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وكيف أنهم كان يمر عليهم الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة ولا يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، وكان صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى أثر الحصير في جنبه، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها).
وانظروا إلى أهل الكفر والعصيان والتمرد على دين الله عز وجل، كم عندهم من زينة الدنيا وزخرفها! قال عز وجل: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]، وقال عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
فالمؤمن عباد الله! لا يطلب الدنيا ولا يسعى إلى الدنيا، قال عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
المؤمن عباد الله! همته أعلى من حطام الدنيا، فهو لا ينافس على حطامها ولا يسعى لشهواتها، بل هو يسعى إلى النعيم المقيم ومجاورة رب العالمين، هو يريد أن يزاحم النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، فباع قليلاً بكثير؛ لأن الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلاً، فالدنيا مثلها -عباد الله- كمثل قطعة الثلج، رخيصة الثمن، سريعة الذوبان، والآخرة كالجوهرة، غالية الثمن ومع ذلك فهي باقية، فالدنيا عباد الله! نسبتها إلى الآخرة لا شيء، قال عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207].
لو أن العبد عاش في الدنيا في أعظم النعيم -عباد الله- ثم كانت نهايته وعاقبته النار -والعياذ بالله- لا يغني عنه ما وجده من نعيم الدنيا شيئاً: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة واحدة، ثم ي