إننا نستطيع أن ندفع غربتنا العامة هذه وأن نردها، وألا نعتبر أنفسنا غرباء، ويجب علينا كمسلمين أن نحمل راية قيادة العالم كله، فنحن أهل التوحيد، ونحن أصحاب الدين الذي أراده الله للعالمين ديناً، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
ومَن مِن أفراد العالم، ومن أمم العالم، ومن حضارات العالم على مر التاريخ أولى برفع الراية وأخذ زمام المبادرة، وقيادة العالم إلى رب العالم سبحانه وتعالى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! هذه الأمة التي كانت تعيش شتاتاً في جزيرة العرب، فجاء الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فوحدها تحت راية التوحيد، وقادها إلى النصر، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ما شعر المسلمون الأول من الصحابة والتابعين بغربة، وإنما الذين يشعرون بغربة هم الذين تناحروا وتنافسوا على الحكم، والذين بعدوا عن رب العباد سبحانه، والذين تركوا التوراة والإنجيل وألقوها خلف ظهورهم من قبل، فما كان أولى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقيادة زمام العالم، وما كان أولى من سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن تكون نبراساً لهذا العالم.
إن دفع هذه الغربة يقتضي خمسة أمور: الأمر الأول: ألا يتنازع بعضنا مع بعض، قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
الأمر الثاني: أن نكون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، ونحن مازلنا أعزة -للأسف- على المؤمنين، وأذلة على الكافرين والعياذ بالله رب العالمين، فنتهم كثيراً من دول الإسلام الموحدة أنها هي التي تصدر لنا الإرهاب وغيره، ونمالئ دولاً أخرى وهم الإرهابيون الحقيقيون.
الأمر الثالث: أن يحمل كل واحد من المسلمين الذكور والإناث الصغار والكبار هم الإسلام، فإذا كان لك من الأبناء ثلاثة فاعتبرهم أربعة؛ لأن الإسلام هو ابنك الأول، وإذا كان لك من الأبناء خمسة فاعتبرهم ستة؛ لأن الإسلام أولى بالرعاية، فلا بقاء لنا في العالم إلا بإسلامنا؛ ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم أن تسلم مفاتيح بيت المقدس: كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غير الإسلام أذلنا الله.
وقالها ربعي بن عامر رضي الله عنه عندما سأله قائد الفرس: ما الذي جاء بكم وأخرجكم من أرض الجزيرة؟ قال: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأن نخرج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
هكذا دفعوا الغربة؛ لأنهم صاروا على قلب رجل واحد، وسمعوا كلام الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
وسمعوا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم: (من فارق الجماعة فاقتلوه) هكذا أمرنا الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم أن نكون على قلب رجل واحد.
الأمر الرابع الذي ندفع به غربتنا: أن تكون دولنا عادلة مع نفسها، عادلة بين حكامها ومحكوميها، بين رؤسائها ومرءوسيها، بين ملوكها ومملوكيها، عندها يتحقق العدل، وتزول الغربة، ولقد صدق شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه حين قال: إن الله لينصر الدولة الكافرة العادلة، ويهزم الدولة المسلمة الظالمة.
هذه حقيقة واقعية، فالله عز وجل لا يحابي أحداً، وهذه سنة الله في خلقه، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
يجب أن نكون منصفين مع أنفسنا، يجب أن يكون الواحد منا منصفاً مع نفسه، وأن يقتص من نفسه، وأن يكون إنساناً عادلاً مع نفسه وغيره، لا يبحث عن حقوقه فحسب، بل يبحث عن واجباته، بذلك نستطيع أن ندفع الغربة.
أضيف أمراً آخر ندفع به غربتنا وهو: أن نتمسك بأعالي الأمور ونترك سفاسفها، ونتفوق في مجالات الحياة، فليتفوق الطالب في دراسته، وليتفوق المهندس في هندسته، وليتفوق الطبيب في طبه، وليتفوق الحرفي في حرفته، عندئذ نأخذ زمام المبادرة مرة أخرى.
نحن أولى من اليابان، وأولى من جنوب شرق آسيا، وهونج كونج، وسنغافورة، وغيرها من عبدة التماثيل، فهؤلاء لما تمسكوا بالأسباب أعطاهم رب العباد سبحانه وتعالى الأسباب كلها.
وديننا يأمر بالعمل، ويأمر بالإخلاص، ويأمر بالصدق، ويأمر بالعلم، ويأمر بعدم التفرق، فما بالنا نتفرق ولا نأخذ مأخذ الجد في العلم، ونرى طلابنا يركضون في المدارس والجامعات ولا يهتمون بالدروس، ونرى أساتذتنا لا يخلصون فيما يدرسون، ونرى أطباءنا جشعون فيما يأخذون، ونرى كثيراً من محامينا ينصبون على الموكلين، ونرى كثيراً من أصحاب المهن يستغلون مهنتهم في إذلال الناس، وأصحاب الجاه يستغلون جاههم في ما لا يحل لهم.
إذاً: فلابد لنا إن أردنا أن ندفع غربتنا وأن نأخذ زمام المبادرة أن نعمل وأن نكد وأن نخلص، وأن نجتهد كل في مكانه، لا تحمل الأمر على العلماء، أو على الأمراء، أو على الحكام، نعم كل واحد سوف يحمل ما وكل إليه أمام رب العباد يوم القيامة، وفي الدنيا أيضاً، لكن أنت أخا الإسلام كن عملياً بأخذ زمام العمل الجاد، وبذلك ندفع الغربة العامة عن المسلمين.