إن كل من يفر إلى الله فهو كريم؛ لأنه يفر إلى الكريم، فيأخذ من صفة الكرم التي لله عز وجل، وليس الكرم أن يعطي أو يبذل المال، وإنما الكرم في خلق المسلم كله، فالكرم في معاملاتك، فإن أساءت إليك زوجتك تكون كريماً معها، فترد الإساءة بالإحسان، وهكذا إن أساء إليك جارك.
وسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم ليس هناك أكرم منه إلا ربه، فكان اليهودي يأتي كل ليلة قبل الفجر في المدينة ويضع القاذورات على بيت الحبيب المصطفى، ولو كان مثل حالتي وحالتك لربما كان يقوم أحدنا فيقتله! لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك.
وبعد صلاة الفجر طرق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم على اليهودي، والعربي بطبيعته كان ينهض في الصباح، لكن العرب هذه الأيام لا ينهضون الصباح، المهم: أن العرب كان النوم عندهم ساعة الفجر نوماً غير شرعي، المسلم وغير المسلم، فكان يوم العربي قبل الإسلام يبدأ عند البكور، فجاء الإسلام وأقر ذلك، يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها) فمثلاً: أنت عندما تأتي المسجد في الصبح لا يحصل لك إغماء ولا غيره، بل بالعكس فالذي يحصل لك هو انشراح الصدر طوال اليوم.
واليوم الذي تنام فيه بعد الفجر -والمتعود على الفجر يعرف هذا- تجد صدرك ضيقاً طوال اليوم، وتقول: ما الذي حصل ما لي ضائق هكذا وليس هناك خبر سيئ؟ ولما تبحث عن السر تجد أنك استيقظت بعد أن أشرقت الشمس؛ لأن الشيطان قد بال في فمك وأذنيك، فأكثر الشعب صار دورة مياه للشيطان، فلا بورك في هذا الشعب إذا كان بهذا الشكل، لكن بورك في شعب استيقظ عند الصباح.
يقول امرؤ القيس الشاعر العربي: وقد أغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل يعني: أنه يخرج الصبح وما زالت الطيور في أعشاشها، فهذا زمن خروجه للعمل.
إذاً: فالإنسان الذي يفر إلى الله إنسان كريم، فليس الكرم في بذل المال فحسب، ولكن للأسف نحن كل حدودنا في البخل والكرم في مسألة المال، وكل تفكيرنا فيه، وإن كان مهماً واقعاً، فمن ذلك: رجل بخيل قال لخادمه: هناك شخص يضيق علي في المسجد كل يوم ويقول لي: ألا تؤكلني عندك؟ فاليوم سآتي به، وسأقول لك: يا غلام! ائتنا بالطعام، فتأتي بالدجاجة مسلوقة وجاهزة، ولكن تأتي بها باردة، وسأقول لك: يا بني سخنها، فتذهب لتسخنها فتغيب حتى يضيق الضيف فيذهب.
فالرجل البخيل يقول للضيف: تعال يا أخي! فأخذه معه، وقد اتفق سلفاً مع الغلام كما تقدم، فقال: يا غلام! ائتنا بالطعام، فأتى بدجاجة مثلجة، فقال له: يا بني! هذه باردة سخنها، فذهب الولد فغاب حتى العصر، وقرب موعد الأذان والانتظار من الظهر، فقال المضيف: نذهب نصلي العصر، وبعد ذلك بقي البخيل يتسكع في الجامع ويقول: أنا عندي جزء قرآن أقرؤه، أو سنحضر درس العلم، فحضرا، وبقي الضيف معه إلى صلاة العشاء، فالرجل البخيل لم يجد مفراً من أخذه معه، فقال: يا غلام! والغلام لم يتفق على هذا الموضع مع سيده، فقال سيده: ائتنا بالطعام، فأتى بالفرخة أيضاً، فقال سيده: يا بني! هذه باردة من أجل أن يفهم الغلام، فذهب الغلام للداخل، والضيف أصابه الغيض، فقال: أدجاجتكم هذه من آل فرعون تعرض على النار غدواً وعشياً؟! سنأكلها باردة.
ففي الناس من الكرم طبيعته، وهناك أناس -والعياذ بالله- بخلاء، وأحسبكم من أهل الكرم؛ لأن الكريم قريب من الله، وقريب من الجنة ومن الناس، وبعيد عن النار، وأما البخيل فهو بعيد عن الله، وبعيد عن الجنة وبعيد من الناس، قريب إلى النار، والعياذ بالله رب العالمين.
لذلك قال أهل العلم: إن الذي يسألك إذا شكيت فيه: هل يستحق أو لا يستحق؟ ولو أعطيته فاحتمال أني جعلت الصدقة في غير موضعها، لكن لو منعته فيمكن أنه يستحق، فأعطه ولو القليل، ثمن إراقة ماء الوجه، هكذا قال أهل العلم، ولك الخيار.
أما مسألة: أن الصدقة للسائل ولو راكباً على الحصان فهذا لم يقله الرسول ولا الصحابة، وإنما هو من اختراع المصريين، فصاحب الحصان يبيعه أولاً، ثم عندما يفقد ثمنه، نعطي له حاجته، وليس هناك شيء يجوز للراكب على الحصان، فمثلاً شخص راكب سيارة بمائة ألف جنيه، أفأضع يدي في جيبي وأعطي له صدقة؟! ليس هذا من المعقول، فليبع السيارة، وعندما تنتهي المائة ألف -أي: ثمن السيارة- نعطي له.