الشرط الرابع في الإحسان في العمل: أن يعتقد العبد وهو يعمل أن الله يراه: فعندما يستشعر العبد أن الله سبحانه وتعالى ينظر إليه يكون عمله متقناً، بل وخالصاً لله.
الرجل الذي يقف يصلي بخشوع في المسجد والناس ينظرون إليه، يقولون: ما شاء الله، هذه الصلاة ليست مثل صلاتنا المستعجلة، فنتعلم من هذا الرجل كيف نصلي، انظروا إليه له عشر دقائق وحتى الآن لم يركع! وهذا الرجل عندما يسمع هذا يعجبه فيحاول أن يحسن من الصلاة ويتقنها! للأسف كلنا هذا الرجل، نسمع المدح فنرضى، وعندما ينتقدك أحدهم تحزن، ولكن الذي ينتقد لو نوى نية صادقة لما حزن الذي ينقد، فلو نويت النصح من داخلك لوجه الله فالذي أمامك لن يحزن، لكن أنت نويت أن تجرحه، وتشعره بالهوان والصغر بأنه لا يفهم ولا يعرف.
اسمعوا إلى هذه القصة البسيطة التي كلنا نعلمها أولادنا، الحسن والحسين لما رأيا رجلاً كبير السن لا يحسن الوضوء كانا صغيرين عمرهما تسع سنين أو عشر سنين، فلو قالوا للرجل كبير السن: أنت مخطئ لربما غضب؛ لكن الحسن والحسين قالا له: يا عماه! اختلفت أنا وأخي في كيفية الوضوء، فتعال فاحكم بيننا، فتوضأ الاثنان الوضوء الذي رأيا جدهما صلى الله عليه وسلم يتوضؤه، فقال لهما: يا أبنائي! أنتما المصيبان وأنا المخطئ، أنا الذي لا أستطيع أن أتوضأ.
هذه هي طريقة التعليم، وانظروا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كيف علم الرجل الرحمة، وعلم الصحابة كيف تكون الدعوة إلى الله، الأعرابي الذي دخل المسجد -الذي لا يختلف عن الشارع في ذلك الوقت، الشارع فيه رمل وحصى، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فيه حصير ولا موكيت ولا سجاد ولا كهرباء- فلقي منطقة فارغة في مؤخرة المسجد فأراد أن يتبول، فذهب إلى ركن المسجد ثم شمر، والصحابة جروا خلف الرجل يريدون أن يفتكوا به، فقبل أن يصلوا إليه حجزهم رسول الله، وقال: (لا تزرموه)، يعني: لا تقطعوا عليه بوله، (وبعدما انتهى الرجل، قال صلى الله عليه وسلم: أهريقوا على بول أخيكم سجلاً من ماء).
أخذوا الماء ونظفوا المكان الذي بال فيه (ووضع يده على كتف الرجل، حتى قال: فما وجدت أحن وأرحم من رسول الله) وضع يده عليه بحنان ولم يدفعه ويقول له: أنت عمرك لن تفهم! بل قال له: (يا أخا الإسلام! هذا مكان لا يصلح لما صنعت) ولم يقل له: أنت جاهل، أو ستذهب في داهية، وإنما قال: هذا المكان لا يصلح للذي عملته، هذا مكان للصلاة والعبادة.
نظر الرجل وتعجب فرفع إلى السماء وقال: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً) فالرسول صلى الله عليه وسلم كان من الممكن أن يسكت عنه، لكن الرسول كلمه مرة أخرى وقال: (لقد حجرت واسعاً) أنت ضيقت الأمر الواسع قل: (اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم) انظر إلى طريقة التعليم سبحان الله! انظروا كيف يكون التعليم! عندما ركب عبد الله بن عباس خلف النبي صلى الله عليه وسلم كان عمره إحدى عشرة سنة، يعلمه ويقول له: (يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله)، يعني: عندما يسأل عن سؤال يجيب عنه بسؤال آخر، من أجل أن يخرج المعلومة من الذي أمامه، ثم بعد ذلك إما أن يؤكد هذه المعلومة له، وإما أن يلغيها، وإما أن يكملها له إن كانت ناقصة، أو يرفع الزيادة إن كان هناك شيء زائد، هكذا كان معلماً صلى الله عليه وسلم.