أنت أيها المسلم يحكمك زمان ويحكمك مكان، وهناك عدة عقبات حولك، فأنت تأتي لتفتح المصحف وتقرأ، فبعد صفحة أو صفحتين يأتيك الشيطان ويقول: يا فلان! أنت مجهد اليوم فخفف عن نفسك، وأنت تسعى لطلب الرزق، وسيكفر الله لك كل سيئاتك إن شاء الله؛ لأن هناك ذنوباً لا يكفرها إلا السعي على المعيشة.
فالمسلمون لا يحفظون إلا أحاديث خاصة تهم المعيشة، مثل حديث: (الطبق يستغفر للاعقه)، وحديث: (إذا جاء العشاء والعشاء فأخروا العِشاء وقدموا العَشاء)، فالمهم أنه يطمئن بطنه، وهذه أحاديث متواترة عنده، فالمسلم عندما يقرأ القرآن يأتيه الشيطان من هذه الزاوية، يقول له: نم واسترح قليلاً، ثم قم قبل الفجر بساعة، واقرأ وأنت يقظ، فالمؤمن اليقظ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هذه فرصة لا تعوض، ومن الذي يضمن لي إذا نمت أن أستيقظ مرة أخرى؟ قيل لأحد العلماء: أتحب أن تموت مسلماً عند باب الحجرة، أم شهيداً عند باب الدار؟ قال: أموت مسلماً عند باب الحجرة، فمن يضمن لي عندما أخرج من الحجرة ألا أجد فتنة فأموت على سوء خاتمة؟ أسأل الله أن يختم لنا ولكم بالصالحات.
إذاً: يا إخوتاه! الشيطان يشغلنا في صلاتنا وفي قراءتنا لكتاب ربنا وفي جميع عباداتنا، فإذا أردت أن تخرج نفقة يقول لك: يا أخي! عشرة دراهم لا تكفي أحداً، انتظر حتى تصير مائة، انتظر حتى تصير مائتين.
أقول: يا أخي! أخرج العشرة؛ لأنك لا تضمن نفسك بعد ذلك، فرب درهم غلب درهمين.
ورضي الله عن أبي الدحداح، ورضي الله عن الصحابة الذين قدموا ما عندهم لله عز وجل، وقد كان أبو بكر يقول: والله يا رسول الله! ما نعطيه لك أحب إلينا من الأموال التي تبقى في بيوتنا.
لكن يوجد في هذا الزمن أناس إذا حصل الواحد منهم على الدرهم أو الدينار أو الجنيه يأخذه ويضعه في كيسه ويقول له: لقد تعبت كثيراً يا حبيبي! في تنقلك بين أيدي الناس، فادخل فلن ترى النور مرة أخرى.
وهكذا سمي المال مالاً؛ لأنه مال بالناس عن الحق.
فنحن يحكمنا زمان ومكان، فالله عز وجل علم تقصير العباد فجعل الصلوات الخمس متقاربة، ثم جعل بفضله للمسلمين لقاء الجمعة، إذ نحضر إلى المسجد بعد أن نغتسل ونتطيب، ويأتي الخطيب ليخطب خطبة يذكرنا فيها بالله، ونجتمع فيصافح بعضنا بعضاً، وننفض الذنوب، ونخرج وقد شحنت القلوب شحنة طيبة.
ثم علم الله تقصير العباد فجعل لهم مناسبة سنوية لقراءة كتاب الله، والأعمال الصالحة، إذ يبدأ المسلم في نفض التراب عن دفتي المصحف، ويكتشف أنه يوجد في بيته مصحف ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهناك من يزور المسجد خمس مرات في اليوم، وهذا هو المطلوب وفي رمضان وغيره.
وهناك من يزور المسجد كل جمعة، وهناك من لا نراه في المسجد إلا من رمضان إلى رمضان، وهناك من يأتي إلى المسجد محمولاً على الأعناق لا ليصلي وإنما ليصلى عليه، نسأل الله السلامة.
فيا أخي المسلم! الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فهو لك إذا عمرته وغمرته بطاعة الله، وعليك إذا ضيعته في اللهو واللعب، ولذلك فإن المؤمن الصادق يقف في معالم الحياة ويصلح فيها نفسه، فالحياة لها معالم يتوقف معها المسلم.
وها قد بقي على رمضان أيام، فلابد لكل واحد منا أن يحاسب نفسه: هل صمت رمضان كله؟ ربما لم أصم، ربما أفطرت يوماً ولم أقضه، قد يكون علي زكوات ولم أخرجها، أو علي صلوات لم أصلها، أو ربما لم أختم المصحف في رمضان، يقول بعض أهل العلم: من لم يختم القرآن في شهر فقد بات مهاجراً لكتاب الله، فإذا كان الشهر العربي يمر عليه دون أن يختم المصحف فمتى يختمه؟ فعلى الأقل مرة في الشهر، أي: جزء في اليوم دائماً.
وللأسف الشديد فإن كثيراً من المسلمين لا يدركون أن آيات العبادات في كتاب الله تقريباً مائة آية وعشر آيات من ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية، إذاً: فهناك ستة آلاف ومائة وستة وعشرون آية تقريباً المسلمون غير مهتمين بها.
يحكى أن حاتماً الأصم صلى بالمسلمين صلاة العصر، وكان المسجد مليئاً إلى آخره، فسلم يمنة ويسرة فلم يجد في المسجد مصلياً خلفه، فتعجب أين ذهب الناس؟ فوجد ضوضاء خارج المسجد فخرج، فقال: خيراً، قالوا: أما تشعر بما نحن فيه؟! انكسرت سارية من سواري المسجد فخشينا أن يسقط السقف علينا فهربنا، فقال: لقد كنت في الصلاة.
وذكرني أحد الإخوة أنه حدث في مصر في عام اثنين وتسعين زلزال أثناء صلاة العصر، وكان هناك رجل ملتزم يصلي ركعتين، قال: ركعت فشعرت أن الأرض تهتز وشعرت بضوضاء، فوجدت نفسي راكعاً خارج المسجد لا أدري من الذي أخرجني؟ فهذا الرجل أثناء الزلزال خرج من المسجد في وضع الركوع ولم يتحرك، فكيف بزلزلة يوم القيامة؟! نسأل الله أن يثبتنا وإياكم، لذلك فإن المسألة تعود إلى ضعف اليقين داخل القلوب.
سئل حاتم عن خشوعه في صلاته، فقال: إن جاء وقت الصلاة أسبغت وضوئي، وجلست في المكان الذي سأصلي فيه؛ حتى تجتمع جوارحي.
وانظر إلى صلاة الظهر أثناء الدوام، وانظر إلى عدم الخشوع فيها، فقد انشغلنا بأعمال الدنيا، يقول حاتم الأصم: جلست في المكان الذي سوف أصلي فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم فأكبر، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعاً بخشوع، وأسجد سجوداً بتواضع، واضعاً الجنة عن يميني، والنار عن يساري، والصراط تحت قدمي، والكعبة بين حاجبي، وملك الموت ورائي؛ كي أظنها آخر صلاة لي، وأتبع ذلك بالإخلاص في النية، ثم لا أدري أقبلت أم لم تقبل! وشتان بين حاتم وهذا الرجل الذي ذهب إلى أبي حنيفة قال: يا أبا حنيفة! بعت داراً لي وحفظت ثمن الدار في مكان ونسيته فلا أدري أين هو؟ فضحك أبو حنيفة إذ إن مهمة الفقيه ليست البحث عن مال الناس، قال: اذهب فقم لله الليلة عسى رب العباد أن يذكرك، فجاء الرجل في صلاة الصبح مبتهجاً، فقال له أبو حنيفة: وجدت مالك؟ قال: نعم، قال: ما الذي حدث؟ قال: دخلت في أول ركعة فتذكرت مكان المال، فخرجت قبل أن أنسى فلما وجدته نمت.
قال أبو حنيفة: كنت أوقن أن الشيطان لن يدعك تتعبد لله الليلة.
فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فهي أمامه، ومن كان يريد الآخرة فالله عنده ثواب الدنيا والآخرة.
ولا يمكن أن يصلي الرجل الصلوات الخمس بالنوافل ويقرأ القرآن، ولكنه لا يكلم زوجته شهراً وشهرين ولا أريد أن أتطاول وأقول: وربما سنة أو سنتين، فتراه يقطب جبينه في وجه زوجته وأولاده.
يروى عن عمر أنه جاءه رجل يريد أن يوليه، فقال عمر لخادمه: إذا جاء هذا فأدخله، فدخل الرجل فرأى عمر على يديه ورجليه، وأطفال عمر يركبون على ظهره ويدور بهم في البيت، فوقف الرجل في حالة من الذهول، فقال عمر: ما لك؟ قال: هكذا تصنع مع أبنائك يا أمير المؤمنين! قال: نعم، وماذا تصنع أنت؟ قال: إن دخلت فر الواقف، واستيقظ النائم، ووقف الجالس.
قال: إذا لم تكن رحيماً بأبنائك فكيف تكون شفيقاً ورحيماً بأبناء المسلمين؟! لا حاجة لنا في ولايتك.
فالإنسان الذي يريد أن يتولى أمر المسلمين يجب أن يكون رقيق القلب رحيماً.