ثانياً: رمضان يربي المسلمين على كف شهواتهم، أو قل على التحكم في شهواتهم، إلى أن تجعل في مكانها الصحيح، تدريب عظيم على عمل نبيل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) (لحييه) هما العظمان في جانب الفم، وبين هاتين العظمتين اللسان والفم، فيشمل ذلك الكلام، والطعام، والشراب، وما بين الرجلين: الفرج، فما هو دور رمضان في هذا الأمر؟ رمضان يدرب المؤمن تدريباً عظيماً على حفظ هذه الأشياء جميعاً.
استمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه)، لاحظ الصيام منع الطعام: (ما بين لحييه)، والشهوات: (ما بين رجليه)، (ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه - أي: جعلته يسهر في قيام الليل- فيشفعان)، تدريب عظيم على التحكم في الشهوات.
ومعلوم أن المؤمن يمتنع في رمضان عن أمور هي في أصلها حلال ولكن حرمت في نهار رمضان فقط، وهي حلال سائر العام، بل هي حلال في ليل رمضان: الطعام بأنواعه، والشراب بأنواعه، والجماع مع الزوجة، فالذي يستطيع أن يمنع نفسه من أمور حلال اعتاد عليها سيكون أقدر بعد ذلك على منع نفسه من أمور حرام، لا شك أنه سيكون أقدر على منع نفسه من الطعام الحرام، والشراب الحرام، والعلاقات المحرمة، وهكذا.
وهذا سؤال هام: ما هو دور التحكم في الشهوات في بناء الأمة المجاهدة؟ ما هو دور التحكم في الشهوات في بناء الفرد الصالح للانتصار والتمكين؟ يا ترى لماذا الفرد المجاهد يحتاج أن يتدرب جيداً في مدرسة الصيام؟ ما هي علاقة الجهاد بالصيام؟ الجهاد يا إخوة مشقة شديدة، وستأتي على الأمة المجاهدة أوقات لا تجد فيها طعاماً ولا شراباً ولا زوجة، ومن كان معتاداً على الصيام فهو على الجهاد أقدر من غيره.
في غزوة تبوك كان الطعام سائر اليوم لا يعدو حفنة تمر، وانقطع عنهم الماء فترة طويلة جداً.
وفي غزوة ذات الرقاع تقطعت أحذيتهم من السير الطويل، وبدءوا يسيرون على الرمال الملتهبة، حتى اضطروا إلى ربط رقاع من الأقمشة على أقدامهم.
وفي غزوة خيبر قل الطعام جداً في أيديهم، حتى ذبحوا الحمر الأهلية وطبخوها وهموا بأكلها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعهم من ذلك وحرمها عليهم، فتنة كبيرة جداً، لا يثبت فيها إلا الصائمون الذين اعتادوا الصيام في أيام الرخاء، فمنّ الله عليهم بالثبات في أيام الشدة.
كانوا يغيبون في الثغور مدداً طويلة تصل أحياناً إلى شهور بل سنوات، نعم حددها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد ذلك بأربعة أشهر، ولكن ذلك عندما يكون هناك جيش بديل يستطيع أن يرسل هذا ويأتي بذلك، ولكن قد يحتاج الجهاد كل الطاقة فيمكثون في الثغور إلى ما شاء الله.
نحن رأينا في موقعة تستر الفارسية لما تكلمنا عن فتوح فارس، كيف أن المسلمين في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه حاصروا تستر ثمانية عشر شهراً متصلة سنة ونصفاً، هذا يحتاج إلى تدريب، والمؤمن في رمضان يشعر بهموم أمته ويستشعر هذه الأمور وهو صائم، فيصبح صيامه تدريباً عملياً على الجهاد، ويكون صادقاً مع الله عز وجل، ومع نفسه في إعدادها ليوم يعز الله عز وجل فيه الإسلام.
الأمر الآخر في علاقة الصيام بالجهاد هو أن الجهاد سيفتح بلاداً كثيرة، وستقع السلطة في أيدي المؤمنين، وسيباشرون أمور الناس، وإن لم يكن المؤمن مؤهلاً تربوياً للتحكم في شهوته فسيقع في كثير من المحظورات لا محالة؛ لكون السلطة في يده والغلبة في صفه، قد يعتدي على حرمات غيره في الطعام والشراب، قد يعتدي على حرماتهم في النساء، وهذا كما ترون كثير الحدوث في الجيوش العلمانية، وما أحداث البوسنة منا ببعيد، لكن المسلم المدرب في مدرسة الصيام، الذي درب شهراً كاملاً على التحكم في شهوته يسيطر على هذه الأمور، كما كان يسيطر عليها وهو صائم باختياره، فهذا يساعد على أن يسير الفتح الإسلامي والتمكين الإسلامي في الطريق المشرق الذي رسمه رب العالمين سبحانه وتعالى، فنعطي القدوة الحسنة، ولا نظلم الناس شيئاً.
والصيام بصفة عامة سواء في رمضان أو في غير رمضان يقوم بهذا الدور التربوي، دور التدريب على التحكم في الشهوات، انظروا إلى النصيحة النبوية الغالية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامة الشباب، وذلك فيما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإن