رضخ الخليفة الضعيف المستعصم بالله، وخرج هو وكبراء قومه وأبناؤه إلى لقاء هولاكو، وهناك أمسك هولاكو بالخليفة وقتل كل من معه في لحظة واحدة، فكان غدراً فظيعاً من هولاكو، وهو أمر متوقع تماماً، ولكن هولاكو أبقى على حياة الخليفة المستعصم بالله؛ لكي يعلمه بمكان كنوز العباسيين، أين كنوز الأجداد التي جمعت على مدار خمسة قرون سابقة؟ قاد هولاكو الخليفة أمامه يرسف في أغلاله، ودخل به بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية ما يزيد على خمسة قرون، فكم من الجيوش خرجت لتجاهد في سبيل الله من هذا المكان؟ كم من العلماء جلسوا يعلمون الناس دينهم في هذا المكان؟ أواه يا بغداد لم يبق لك أحد، أين خالد؟ أين القعقاع؟ أين النعمان؟ أين المثنى بن حارثة؟ أين سعد بن أبي وقاص؟ أين الحمية في صدور الرجال؟ أين النخوة في أبناء المسلمين؟ أين العزة والكرامة؟ أين الذين يطلبون الجنة؟ أين المقاتلون في سبيل الله؟ لا أحد، فتحت بغداد أبوابها على مصراعيها، لا مقاومة، لا حراك، لم يبق في بغداد رجال، ولكن فقط أشباه رجال.
واستباح هولاكو مدينة الإمام أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل والإمام الشافعي، واستباح مدينة الرشيد الذي كان يحج عاماً ويجاهد عاماً، والمعتصم الذي سيّر جيشاً من بغداد إلى عمورية لنجدة امرأة مسلمة واحدة صفعها رجل رومي فقط ولم يقتلها.
قتل هولاكو عليه لعنة الله من أهل بغداد ألف ألف مسلم أو يزيدون، ما بين رجال ونساء وأطفال، حرب إبادة جماعية هائلة رهيبة، مأساة من أشد مآسي التاريخ ضراوة، ووجد جندي أربعين طفلاً حديثي الولادة في شارع جانبي من شوارع بغداد، قد قتلت أمهاتهم جميعاً فقتلهم في عنف وبشاعة وقلوب أشد قسوة من الحجارة.
واستمر القتل في المدينة أربعين يوماً، لا يرفع فيها مسلم سيفاً؛ لأنه يعتقد أن التتار لا يهزمون لا يجرحون، بل لا يموتون، فما الفائدة من بذل الجهد في المقاومة؟ نساء التتار يقتلن رجال المسلمين، إذا نادت تترية على مسلم قف! وقف وقد تيبست قدمه في الأرض، حتى يأتي التتري ويقتله ذلة وخزياً وعاراً.
اتجه التتار إلى كنوز العباسيين واستخرجوا كنوز السنين، وقد يفهم هذا، ولكن الذي لا يفهم أنهم اتجهوا بعد ذلك إلى مكتبة بغداد، فأخرجوا الكتب منها وألقوا بها جميعاً في نهر دجلة، مئات الألوف من العلوم الثمينة التي لا تقدر بثمن، تخيل هذا الكم الضخم من تراث الحضارة والمدنية والإنسانية يلقى بها بهذه الصورة في نهر دجلة، حتى تلون لون النهر إلى اللون الأسود، تدمير لكل ما هو حضاري.
مثل ذلك فعل الصليبيون الأسبان بمكتبة قرطبة، حين أحرقوا كل كتبها لما سقطت قرطبة، حروب إبادة لكل ما هو حضاري أو مفيد للإنسانية، كل هذا وما زال هولاكو يقول: إنه ما جاء إلى هذا المكان إلا لإرساء قواعد الأمن والعدل والحرية.
وبعد أربعين يوماً وقف القتل في المدينة، وقد تناثرت الجثث المتعفنة في شوارع حضارة الإسلام، وأعلن هولاكو أمناً حقيقياً؛ ليخرج المختبئون من المسلمين؛ ليرفعوا الجثث بعد أن انتشرت الأوبئة، فخرج الذين كانوا مختبئين في الخنادق، والذين كانوا مختبئين في الديار المهجورة، والذين كانوا مختبئين في المقابر، خرجوا جميعاً للمدينة المدمرة بغداد يرفعون جثث أهلهم وذويهم.
وانسحب هولاكو بجيشه خارج المدينة لتجنب الأوبئة.
وقتل هولاكو الخليفة المستعصم بالله، ووضع على رأس الحكم في بغداد الوزير العلقمي الشيعي، وجعل معه مستشارين من التتار، أو قل: جعل معه مراقبين من التتار، وأغدق هولاكو بالهدايا على البطريرك ماكيكا وأعطاه قصراً من قصور الخلافة، وسقطت بغداد بعد أن فتحت بالإسلام منذ أكثر من (640) سنة، على يد الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
ودب الرعب في أوصال العالم الإسلامي بأسره، وفقد معظم المسلمين الأمل في قيامه، وظهر اعتقاد عجيب في تلك الآونة، وهو أن هذا الأمر من علامات الساعة القريبة جداً، وأن المهدي سينزل قريباً جداً، وشعر الناس أنهم لا طاقة لهم بـ هولاكو وجنوده، فأرادوا النصر عن طريق معجزة، فإما أن يخسف بجيش التتار، وإما أن ينتظروا المهدي فينتصر على التتار، أما أن يتحرك المسلمون بدون المهدي فهذا أمر محال، هزيمة نفسية بشعة وغياب كامل للوعي الإسلامي الصحيح.
وكان سقوط بغداد متزامناً مع سقوط قرطبة وإشبيلية في الأندلس، فإن قرطبة سقطت سنة (636هـ) قبل بغداد بعشرين سنة، وإشبيلية سقطت سنة (646هـ) قبل بغداد بعشر سنين، وها هي