دِرْهَمًا (وَبِهِ) أَيْ بِالْحَمْلِ أَيْضًا بِأَنْ يَقُولَ أَوْصَيْت بِحَمْلِ جَارِيَتِي هَذِهِ لِفُلَانٍ فَإِنَّ الْوَصِيَّتَيْنِ تَصِحَّانِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَالْإِرْثُ يَجْرِي فِي الصُّورَتَيْنِ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ أَيْضًا لَكِنَّ الثَّانِيَةَ إنَّمَا تَصِحُّ (إنْ وُلِدَ) أَيْ الْحَمْلُ (لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِهَا) أَيْ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ صِحَّةَ وَصِيَّةِ الْحَمْلِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى وُجُودِهِ وَإِنَّمَا يَتَيَقَّنُ بِوُجُودِهِ إذَا وُلِدَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ.
(وَبِالْأَمَةِ إلَّا حَمْلَهَا) فَإِنَّهَا أَيْضًا تَصِحُّ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ وَمَا لَا فَلَا كَمَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ وَيَصِحُّ إفْرَادُ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ.
(وَمِنْ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ وَبِالْعَكْسِ) فَالْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الْآيَةَ، وَالثَّانِي لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ يُسَاوِي الْمُسْلِمَ فِي الْمُعَامَلَاتِ حَتَّى جَازَ التَّبَرُّعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْحَيَاةِ فَكَذَا فِي الْمَمَاتِ.
(لَا حَرْبِيٍّ فِي دَارِهِ) فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ وَهُوَ فِي دَارِهِمْ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا بِرٌّ وَصِلَةٌ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ بِرِّ مَنْ يُقَاتِلُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة: 9] الْآيَةُ.
وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ، وَإِنْ فُعِلَ جَازَ كَذَا فِي الْكَافِي، وَالنِّهَايَةِ أَقُولُ: لَا يَخْفَى بُعْدُهُ بَلْ وَجْهُ التَّوْفِيق مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ فِي دَارِهِمْ فَإِنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ حَرْبِيٍّ لَيْسَ فِي دَارِهِمْ وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِمَّنْ يُقَاتِلُنَا بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِمَّا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ (وَلَوْ لِوَارِثِهِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» (وَقَاتِلِهِ مُبَاشَرَةً) سَوَاءٌ كَانَ عَامِدًا أَوْ خَاطِئًا لِقَوْلِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: لَكِنْ فِي الثَّانِيَةِ إنَّمَا تَصِحُّ إنْ وُلِدَ الْحَمْلُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِهَا) لَعَلَّهُ إنَّمَا قَيَّدَ بِهَذَا فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى مَشْيًا عَلَى مَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ لَكِنْ لَا يُعْلَمُ بِهِ حُكْمُ ابْتِدَاءِ الْمَجِيءِ بِالْحَمْلِ فِي الْأُولَى فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ تَرْكُ هَذَا الْقَيْدِ فِي الثَّانِيَةِ وَيُعْلَمُ ابْتِدَاءً وَقْتُ الْمَجِيءِ بِهِ فِي الصُّورَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ مِنْ مَتْنِهِ.
(تَنْبِيهٌ) : إذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُعْتَدَّةً حِينَ الْوَصِيَّةِ يُعْتَبَرُ الْوِلَادَةُ لِأَجْلِ ثُبُوتِ النَّسَبِ إلَى سَنَتَيْنِ كَمَا فِي الْجَوْهَرَةِ، وَالْمُرَادُ أَقَلُّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِمَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ حَالَ الْوَصِيَّةِ
(قَوْلُهُ: وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ) قَالَ قَاضِي زَادَهْ كَذَا ذَكَرَهُ شُرَّاح الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَتَبِعَهُمْ شُرَّاحُ الْهِدَايَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْ صَاحِبُ الْمُحِيطِ قَوْلَهُمْ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. . . إلَخْ وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ، وَلَعَلَّ الْحَقَّ رَأْيُ صَاحِبِ الْمُحِيطِ اهـ.
وَقَالَ الْمَرْحُومُ جُوَيْ زَادَهْ إنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي السِّيَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ وَهَذِهِ عِبَارَتُهُ: أَقُولُ قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ وَلَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ لِحَرْبِيٍّ، وَالْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ وَإِنْ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ بِحَقِّ الشَّرْعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَانَا عَنْ بِرِّهِمْ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الصَّحِيحِ بِرُّ الْحَرْبِيِّ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ مَا امْتَنَعَ جَوَازُهَا لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْ بِرِّهِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ بَرَّهُ الْمُوَرِّثُ فِي صِحَّتِهِ يَجُوزُ وَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ جَوَازُهَا لِحَقِّ بَاقِي الْوَرَثَةِ وَكَذَا الْوَصِيَّةُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَتَجُوزَانِ بِإِجَازَتِهِمْ وَلِأَنَّ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ فِي حَقِّنَا، وَالْوَصِيَّةُ لِلْمَيِّتِ بَاطِلَةٌ كَذَا ذَكَرَهُ مَسْأَلَةُ الْحَرْبِيِّ فِي وَصَايَا الْأَصْلِ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ قَالُوا وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ مِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ وَذَكَرَ مَا فِي الْكَافِي وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ هَكَذَا قَالُوا، وَالْمَذْكُورُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْحَرْبِيِّ بَاطِلَةٌ، وَصُورَةُ الْمَذْكُورِ ثَمَّةَ لَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ لِحَرْبِيٍّ، وَالْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ إلَى آخِرِ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ وَرَأَيْت الْمَسْأَلَةَ الَّتِي نَقَلَهَا صَاحِبُ الْمُحِيطِ فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لِلسَّرَخْسِيِّ وَقَدْ فَصَّلَهَا تَفْصِيلًا وَافِيًا وَتَتَبَّعْتهَا كَثِيرًا لِأَظْفَرَ بِمَا قَالُوا إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ فَلَمْ أَرَ فِيهِ غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ فَنَقُولُ لَا بَأْسَ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ الْمُشْرِكَ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا مُحَارِبًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا: أَنَّهُ «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ إلَى مَكَّةَ حِينَ قَحَطُوا وَأَمَرَ بِدَفْعِ ذَلِكَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ لِيُفَرَّقَا عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَبِلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُو صَفْوَانَ» قَالَ: وَبِهِ نَأْخُذُ وَلِأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحْمُودَةٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ وَفِي كُلِّ دِينٍ، وَالْإِهْدَاءُ إلَى الْغَيْرِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُشْرِكِينَ جَمِيعًا اهـ.
مُخْتَصَرًا فَلَمْ أَشُكَّ فِي أَنَّ مُرَادَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ كَلَامُهُ هَذَا لَكِنْ مَنْ أَرَادَ التَّوْفِيقَ لَمْ يَطَّلِعْ عَنْ الْمُرَادِ فَوَفَّقَ رَجْمًا بِالْغَيْبِ مَعَ عَدَمِ اسْتِقَامَتِهِمَا أَوَّلًا الْفَرْقُ الثَّانِي الَّذِي بَنَى السَّرَخْسِيِّ بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهِ لَدَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهَا مَحْمُودَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ وَلَوْ كَانَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ ثُمَّ الْفَرْقُ الْأَوَّلُ مِنْ الْفَرْقَيْنِ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ شَرْحِ السِّيَرِ فَالْخِلَافُ فِي جَوَازِ صِلَةِ الْحَرْبِيِّ وَعَدَمِهِ لَا فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُ وَعَدَمُهُ لِاقْتِضَاءِ الْفَرْقِ الثَّانِي عَدَمَ جَوَازِهَا اهـ.
عِبَارَةُ الْمَرْحُومِ جَوِي زَادَهْ إلَّا أَنَّهُ يُتَأَمَّلُ فِي قَوْلِهِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الصَّحِيحِ بِرُّ الْحَرْبِيِّ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدُ لَا بَأْسَ أَنْ يَصِلَ الْمُسْلِمُ الرَّجُلَ الْمُشْرِكَ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا مُحَارِبًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا.
(قَوْلُهُ: وَجْهُ التَّوْفِيقِ) عُلِمَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَرْحُومُ جُوَيْ زَادَهْ أَنَّهُ لَا احْتِيَاجَ إلَى هَذَا لِعَدَمِ ثُبُوتِ مَا يُجَوِّزُ الْوَصِيَّةَ لِلْحَرْبِيِّ (قَوْلُهُ: أَقُولُ لَا يَخْفَى بَعْدَهُ بَلْ وَجْهُ التَّوْفِيقِ. . . إلَخْ)
قَالَ قَاضِي زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَقُولُ هَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ فَإِنَّ لَفْظَ السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَلَى