كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] الْآيَةَ (وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهِ) أَيْ الْقَتْلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (أَجْرٌ) أَيْ صَارَ مَأْجُورًا إنْ صَبَرَ، وَلَمْ يُظْهِرْ الْكُفْرَ حَتَّى قُتِلَ؛ لِأَنَّ خُبَيْبًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صُلِبَ وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ (وَ) رَخَّصَ أَيْضًا (إتْلَافَ مَالِ مُسْلِمٍ) ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ.
(وَ) لَكِنَّ صَاحِبَ الْمَالِ (ضَمَّنَ الْحَامِلَ) ؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ آلَةٌ لِلْحَامِلِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ، وَالْإِتْلَافُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِأَنْ يُلْقِيَهُ عَلَيْهِ فَيَقْتُلَهُ (لَا قَتْلَهُ) عُطِفَ عَلَى إتْلَافَ أَيْ لَا يُرَخِّصُ قَتْلَ مُسْلِمٍ بَلْ يَصْبِرُ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ فَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ لَا يُسْتَبَاحُ لِضَرُورَةٍ مَا إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ قَتَلَهُ، (وَيُقَادُ فِي الْعَمْدِ الْحَامِلُ فَقَطْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ يَصِيرُ آلَةً لَهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُقَادُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِلشُّبْهَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ يُقَادُ الْفَاعِلُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُقَادُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْفَاعِلُ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْحَامِلُ بِالتَّسَبُّبِ.
(وَلَا) يُرَخِّصُ بِالْأَوَّلِ (زِنَا الرَّجُلِ) ؛ لِأَنَّهُ كَالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا هَالِكٌ حُكْمًا لِعَدَمِ مَنْ يُرَبِّيهِ فَلَا يُسْتَبَاحُ لِضَرُورَةٍ مَا كَالْقَتْلِ، وَلَكِنْ لَا يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا يَعْنِي إذَا لَمْ يُرَخِّصْ زِنَاهُ بِالْمُلْجِئِ كَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّ انْتِشَارَ الْآلَةِ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ (وَلَكِنْ لَا يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا) فَإِنَّ انْتِشَارَ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّوَاعِيَةِ إذْ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا كَمَا فِي النَّائِمِ، (وَبِالثَّانِي) عُطِفَ عَلَى الْأَوَّلِ يَعْنِي بِإِكْرَاهِ غَيْرِهِ مُلْجِئٍ (لَا) أَيْ لَا تُرَخِّصُ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ (لَكِنَّهُ) أَيْ الثَّانِي مِنْ الْإِكْرَاهِ (أَسْقَطَ الْحَدَّ فِي زِنَاهَا) ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُكْرَهَةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ الشُّبْهَةِ كَذَا فِي الْخَانِيَّةِ (لَا زِنَاهُ) أَيْ لَمْ يَسْقُطُ الْحَدُّ فِي زِنَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ الْمُلْجِئَ لَمْ يَكُنْ رُخْصَةً فِي حَقِّهِ كَمَا كَانَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ حَتَّى يَكُونَ غَيْرُ الْمُلْجِئِ شُبْهَةً لِيَنْدَرِئَ الْحَدُّ.
(تَصَرُّفَاتُ الْمُكْرَهِ قَوْلًا) يَعْنِي أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةَ لِلْمُكْرَهِ سَوَاءٌ كَانَ مُكْرَهًا بِالْمُلْجِئِ أَوْ بِغَيْرِهِ (تَنْعَقِدُ) عِنْدَنَا كَمَا فِي الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ (وَمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ يُفْسَخُ) إنْ فَسَخَ الْمُكْرَهُ، (وَمَا لَا) يَحْتَمِلُهُ (فَلَا) يُفْسَخُ، (الْأَوَّلُ) وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ (كَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَإِجَارَتِهِ وَصُلْحِهِ وَإِبْرَائِهِ مَدْيُونَهُ أَوْ كَفِيلَهُ وَهِبَتِهِ) فَإِنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِأَحَدِ نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ خُيِّرَ الْفَاعِلُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ أَمْضَاهُ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مُطْلَقًا يُعْدِمُ الرِّضَا، وَالرِّضَا شَرْطُ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ فَتَفْسُدُ بِفَوَاتِهِ (وَإِقْرَارِهِ) ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَإِنَّمَا صَارَ حُجَّةً لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِهِ فِيمَا يَقْرَبُهُ قَاصِدًا إلَى دَفْعِ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ (فَيَمْلِكُهُ) أَيْ الْمَبِيعَ بِالْإِكْرَاهِ (الْمُشْتَرِي إنْ قَبَضَ) كَمَا فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ (فَيَصِحُّ إعْتَاقُهُ) أَيْ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي لِكَوْنِهِ مَلَكَهُ، (وَلَزِمَهُ) أَيْ الْمُشْتَرِيَ (قِيمَتُهُ) ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا مَلَكَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ) أَيْ إلَى الطُّمَأْنِينَةِ كَذَا فِي التَّبْيِينِ وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَهُوَ أَمْرٌ بِالثَّبَاتِ عَلَى مَا كَانَ لَا أَمْرٌ بِمَا لَيْسَ بِكَائِنٍ مِنْ الطُّمَأْنِينَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} [الفاتحة: 6] أَوْ مَعْنَاهُ إنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ ثَانِيًا فَعُدْ أَنْتَ إلَى مِثْلِ مَا أَتَيْت بِهِ أَوَّلًا مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ اهـ.
(قَوْلُهُ وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ) وَقَالَ فِي مِثْلِهِ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ (قَوْلُهُ: وَرَخَّصَ أَيْضًا إتْلَافَ مَالِ مُسْلِمٍ) أَيْ وَذِمِّيٍّ وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ مَا لَوْ صَبَرَ فَلَمْ يُتْلِفْهُ حَتَّى قُتِلَ وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْكَنْزِ يُفِيدُ ثَوَابَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ شَارِحُهُ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ قَاضِي خَانْ وَلَوْ بِوَعِيدِ الْقَتْلِ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَبَرَ عَلَى الْقَتْلِ وَلَمْ يُتْلِفْ مَالَ نَفْسِهِ يَكُونُ شَهِيدًا فَلَأَنْ لَا يَأْثَمَ إذَا امْتَنَعَ عَنْ إبْطَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ عَلَى الْمَرْأَةِ كَانَ أَوْلَى اهـ.
(قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ آلَةٌ لِلْحَامِلِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ) قَالَ فِي السِّرَاجِ حَتَّى لَوْ حَمَلَهُ مَجُوسِيٌّ عَلَى ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا اهـ.
(قَوْلُهُ أَيْ لَا يُرَخِّصُ قَتْلَ مُسْلِمٍ) يَعْنِي وَذِمِّيٍّ (قَوْلُهُ لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ لَا يُرَخَّصُ لِضَرُورَةٍ مَا إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ قَتَلَهُ) فِي الْحَصْرِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُهُ بِإِخْرَاجِهِ السَّرِقَةَ إذْ لَمْ يُلْقِهَا بِالصِّيَاحِ عَلَيْهِ أَوْ بِإِتْيَانِهِ حَلِيلَتَهُ كَذَلِكَ وَالذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ (قَوْلُهُ: وَيُقَادُ فِي الْعَمْدِ الْحَامِلُ فَقَطْ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُبَاحُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ بِالْمُلْجِئِ وَلَوْ قَتَلَ أَثِمَ وَيُقْتَصُّ الْحَامِلُ وَيُحْرَمُ الْمِيرَاثُ لَوْ بَالِغًا وَيُقْتَصُّ لِلْمُكْرَهِ مِنْ الْحَامِلِ وَيَرِثُهُ.
(قَوْلُهُ وَلَا يُرَخَّصُ بِالْأَوَّلِ زِنَا الرَّجُلِ) لَعَلَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَ الْأَوَّلِ لِطُولِ الْكَلَامِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَإِلَّا فَفِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَبِالثَّانِي. . . إلَخْ وَفِي كَلَامِهِ إشَارَةٌ إلَى إثْمِهِ وَفِي شَرْحِ الْكَافِي رَجَوْت أَنْ لَا تَأْثَمَ يَعْنِي الْمَرْأَةَ.
(قَوْلُهُ كَبَيْعِهِ) شَامِلٌ لِمَا لَوْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي فَإِنَّهُ يُفْسَخُ (قَوْلُهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ) قَالَ فِي الْمُجْتَبَى بَيْعُ الْمُكْرَهِ يُخَالِفُ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ يَجُوزُ بِالْإِجَازَةِ يَنْقُضُ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ دُونَ الْقَبْضِ الثَّمَنُ أَوْ الثَّمَنُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُكْرَهِ وَفِي الْفَاسِدِ بِخِلَافِهَا اهـ.
(قَوْلُهُ فَيَصِحُّ إعْتَاقُهُ) كَذَا تَدْبِيرُهُ وَاسْتِيلَادُهُ