لِلِاخْتِيَارِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِالْقَتْلِ أَوْ قَطْعِ الْعُضْوِ فَفَوْتُ الرِّضَا أَعَمُّ مِنْ فَسَادِ الِاخْتِيَارِ فَفِي الْحَبْسِ أَوْ الضَّرْبِ بِفَوْتِ الرِّضَا، وَلَكِنَّ الِاخْتِيَارَ الصَّحِيحَ بَاقٍ وَفِي الْقَتْلِ لَا رِضَا وَلَكِنْ لَهُ اخْتِيَارٌ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ، ثُمَّ قَالَ وَتَحْقِيقُهُ إلَى آخِرِ مَا قَالَ وَالشَّجَرَةُ تُنْبِئُ عَنْ الثَّمَرَةِ (مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ) وَعَدَمِ سُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مُبْتَلًى، وَالِابْتِلَاءُ يُحَقِّقُ الْخِطَابَ أَلَا يَرَى أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَحَظْرٍ وَرُخْصَةٍ، وَيَأْثَمُ مَرَّةً وَيُؤْجَرُ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ دَلِيلُ الْخِطَابِ وَبَقَاءُ الْأَهْلِيَّةِ.
(وَشَرْطُهُ) أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ (قُدْرَةُ الْحَامِلِ عَلَى) تَحْقِيقِ (مَا هَدَّدَ بِهِ سُلْطَانًا أَوْ غَيْرَهُ) يَعْنِي لِصًّا أَوْ نَحْوَهُ هَذَا عِنْدَهُمَا،.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ سُلْطَانٍ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَكُونُ بِلَا مَنْعَةٍ، وَالْمَنْعَةُ لِلسُّلْطَانِ قَالُوا هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ؛ لِأَنَّ فِي زَمَانِهِ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ، فَأَجَابَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ وَفِي زَمَانِهِمَا ظَهَرَ الْفَسَادُ وَصَارَ الْأَمْرُ إلَى كُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَيَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ مِنْ الْكُلِّ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
(وَ) الثَّانِي (خَوْفُ الْفَاعِلِ وُقُوعَهُ) أَيْ وُقُوعَ مَا هَدَّدَ بِهِ الْحَامِلُ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَصِيرَ بِهِ مَحْمُولًا عَلَى مَا دَعَا إلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ وَالْمُبَاشَرَةِ، (وَ) الثَّالِثُ (كَوْنُهُ) أَيْ الْفَاعِلِ (مُمْتَنِعًا عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لِحَقٍّ مَا) أَيْ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَبَيْعِ مَالِهِ أَوْ إتْلَافِهِ أَوْ إعْتَاقِ عَبْدِهِ أَوْ لِحَقِّ شَخْصٍ آخَرَ كَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ لِحَقِّ الشَّرْعِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَنَحْوِهِمَا، (وَ) الرَّابِعُ (كَوْنُ الْمُكْرَهِ بِهِ مُتْلِفَ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ مُوجِبَ غَمٍّ بِعَدَمِ الرِّضَا) وَهَذَا أَدْنَى مَرَاتِبِهِ، وَهُوَ أَيْضًا مُتَفَاوِتٌ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ كَمَا سَيَأْتِي.
(وَهُوَ) أَيْ الْإِكْرَاهُ (إمَّا مُلْجِئٌ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ لَوْ) كَانَ (بِإِتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ، وَإِمَّا غَيْرُ مُلْجِئٍ لَا يُفْسِدُهُ لَوْ كَانَ بِحَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ مُدَّةً مَدِيدَةً أَوْ ضَرْبٍ شَدِيدٍ) فِي الْمَبْسُوطِ، الْحَدُّ فِي الْحَبْسِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهُ مَا يَجِيءُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ بِهِ، وَفِي الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهُ مَا يَجِدُ مِنْهُ الْأَلَمَ الشَّدِيدَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تَكُونُ بِالرَّأْيِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْحَاكِمُ إذَا رَفَعَ إلَيْهِ (بِخِلَافِ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِهِ) أَيْ قَيْدِ يَوْمٍ (أَوْ ضَرْبٍ غَيْرِ شَدِيدٍ) فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إكْرَاهًا إذْ لَا يُبَالِي بِمِثْلِهَا عَادَةً فَلَا يُعْدَمُ الرِّضَا (إلَّا لِذِي جَاهٍ) يَعْنِي أَنَّهَا تَكُونُ إكْرَاهًا لِرَجُلٍ لَهُ جَاهٌ وَعِزَّةٌ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ لِغَيْرِهِ فَيَفُوتُ بِهِ الرِّضَا (فَبِالْأَوَّلِ) يَعْنِي الْمُلْجِئَ (رَخَّصَ أَكْلُ مَيْتَةٍ وَدَمٍ وَلَحْمِ خِنْزِيرٍ وَشُرْبِ خَمْرٍ) ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُقَيَّدَةٌ بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَفِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ مُبْقَاةٌ عَلَى أَصْلِ الْحِلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى حَالَةَ الضَّرُورَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ لِلْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا، وَالِاضْطِرَارُ يَحْصُلُ بِالْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ (وَبِالصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ آثِمٌ) فِي هَذِهِ الصُّوَرِ (كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ) لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ كَانَ بِالِامْتِنَاعِ مُعَاوِنًا لِغَيْرِهِ عَلَى إهْلَاكِ نَفْسِهِ.
. (وَ) رَخَّصَ أَيْضًا (بِلَفْظِ كَلِمَةِ كُفْرٍ وَقَلْبُهُ مُطَمْئِنٌ بِالْإِيمَانِ) لِحَدِيثِ «عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ اُبْتُلِيَ بِهِ وَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ وَالثَّانِي خَوْفُ الْفَاعِلِ وُقُوعَهُ) يَعْنِي فِي الْحَالِ كَمَا فِي الْبُرْهَانِ (قَوْلُهُ أَوْ بِإِتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ) كَذَا بَعْضُ الْعُضْوِ كَإِتْلَافِ أُنْمُلَةٍ أَوْ ضَرْبٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ كَمَا فِي الْبُرْهَانِ.
(قَوْلُهُ فِي الْمَبْسُوطِ الْحَدُّ فِي الْحَبْسِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهُ مَا يَجِيءُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ بِهِ. . . إلَخْ) كَذَا فِي التَّبْيِينِ ثُمَّ قَالَ وَالْإِكْرَاهُ بِحَبْسِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ لَا يُعَدُّ إكْرَاهًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْجِئٍ وَلَا يَعْدَمُ الرِّضَا بِخِلَافِ حَبْسِ نَفْسِهِ اهـ، وَكَذَا نُقِلَ فِي الْبُرْهَانِ كَلَامُ الْمَبْسُوطِ، وَقَدْ كَتَبَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمَقْدِسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ مَا صُورَتُهُ فَشَمَلَ حَبْسَ الْأَبِ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ الْقِيَاسَ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، ثُمَّ قَالَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إكْرَاهٌ وَلَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ حَبْسَ أَبِيهِ يَلْحَقُ بِهِ مِنْ الْحُزْنِ مَا يَلْحَقُ بِهِ حَبْسُ نَفْسِهِ أَوْ أَكْثَرُ فَالْوَلَدُ الْبَارُّ يَسْعَى فِي تَخْلِيصِ أَبِيهِ مِنْ السِّجْنِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُحْبَسُ فَمَا فِي الزَّيْلَعِيِّ لَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ اهـ.
(قَوْلُهُ فَبِالْأَوَّلِ رَخَّصَ أَكْلَ مَيْتَةٍ وَدَمٍ وَلَحْمِ خِنْزِيرٍ وَشُرْبَ الْخَمْرِ) يَعْنِي لَا بِالْحَبْسِ وَشَبَهِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّ مُحَمَّدًا إنَّمَا أَجَابَ هَكَذَا بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْحَبْسِ فِي زَمَانِهِ فَأَمَّا الْحَبْسُ الَّذِي أَحْدَثُوهُ الْيَوْمَ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّهُ يُبِيحُ التَّنَاوُلَ كَمَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ.
(قَوْلُهُ وَبِالصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ أَثِمَ) أَيْ إنْ عَلِمَ بِالْحِلِّ وَإِلَّا فَلَا يَأْثَمُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ مُطْلَقًا كَذَا فِي الْبُرْهَانِ وَالتَّبْيِينِ (قَوْلُهُ لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) هُوَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّحْلِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ثُمَّ تَرَكُوهُ فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَا وَرَاءَك قَالَ شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُرِكْت حَتَّى نِلْت مِنْك وَذَكَرْت آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ قَالَ كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَك قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ قَالَ فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] الْآيَةَ كَذَا فِي الْبُرْهَانِ