حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ امْتِلَاءِ دِمَاغِهِ مِنْ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ إلَيْهِ فَيَتَعَطَّلُ مَعَهُ عَقْلُهُ الْمُمَيِّزُ بَيْنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ وَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنَّ الطَّرِيقَ الْمُفْضِيَ إلَيْهِ قَدْ يَكُونُ أَيْضًا حَرَامًا كَمَا فِي الْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا فِي الْأَرْبَعَةِ اللَّاحِقَةِ وَسُكْرُ الْمُضْطَرِّ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَالسُّكْرُ الْحَاصِلُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ فَإِنْ قِيلَ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ حَتَّى إنَّ الْحَرَامَ يَكُونُ وَاجِبَ التَّرْكِ وَالسُّكْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ لَيْسَ بِفِعْلٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ اخْتِيَارِيًّا قُلْنَا مَعْنَى كَوْنِهِ حَرَامًا حُرْمَةَ الْمُبَاشَرَةِ إلَى تَحْصِيلِهِ وَاكْتِسَابِ أَسْبَابِ حُصُولِهِ كَمَا قَالُوا فِي بَيَانِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَحُرْمَةُ الْكُفْرِ بِأَنَّهُمَا مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ دُونَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَتَدَبَّرْ (وَخَلُّ الْخَمْرِ) عُطِفَ عَلَى الْمُثَلَّثِ أَيْ حَلَّ خَلُّ الْخَمْرِ أَيْ الْخَلُّ الَّذِي يَتَحَوَّلُ الْخَمْرُ إلَيْهِ (وَلَوْ) كَانَ تَحْوِيلُهُ (بِعِلَاجٍ) كَإِلْقَاءِ الْمِلْحِ وَالْخُبْزِ مَثَلًا إلَيْهَا (وَلَا يُكْرَهُ تَخْلِيلُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ وَلَا يَحِلُّ الْخَلُّ الْحَاصِلُ بِهِ إنْ كَانَ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ فَلَهُ فِي الْحِلِّ قَوْلَانِ (وَالِانْتِبَاذُ) أَيْ حَلَّ اتِّخَاذُ النَّبِيذِ (فِي الدُّبَّاءِ) وَهُوَ الْقَرْعُ (وَالْخَتْمُ) وَهُوَ الْجُرَّةُ الْخَضْرَاءُ (وَالْمُزَفَّتُ) وَهُوَ الظَّرْفُ الْمَطْلِيُّ بِالزِّفْتِ (وَالنَّقِيرُ) وَهُوَ ظَرْفٌ يَكُونُ مِنْ الْخَشَبِ الْمَنْقُورِ فَإِنَّ هَذِهِ الظُّرُوفَ كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِالْخَمْرِ فَلَمَّا حُرِّمَتْ حَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الظُّرُوفِ إمَّا لِأَنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَإِمَّا لِأَنَّ فِيهَا أَثَرَ الْخَمْرِ فَلَمَّا مَضَى مُدَّةٌ أَبَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِعْمَالَهَا وَأَيْضًا يُبَالِغُ فِي ابْتِدَاءِ تَحْرِيمِ شَيْءٍ وَيُشَدِّدُ لِيَتْرُكَهُ النَّاسُ مَرَّةً فَإِذَا تَرَكُوهُ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ يَزُولُ التَّشْدِيدُ
(وَكُرِهَ شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِامْتِشَاطُ بِهِ) أَرَادَ بِالْكَرَاهَةِ الْحُرْمَةَ لِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ وَعَبَّرَ بِهِ لِعَدَمِ الْقَاطِعِ فِيهِ كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ (وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ بِلَا سُكْرٍ) لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ فِي قَلِيلِ الْخَمْرِ لِكَوْنِهِ دَاعِيًا إلَى الْكَثِيرِ وَالدُّرْدِيُّ لَيْسَ كَذَلِكَ فَاعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الْمُسْكِرِ.
(كِتَابُ الْجِنَايَاتِ) لَا يَخْفَى وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْكِتَابِ لِكِتَابِ الْحُدُودِ وَالْأَشْرِبَةِ الْجِنَايَةُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَحْرُمُ شَرْعًا سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ خُصَّتْ بِمَا تَعَلَّقَ بِالنُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَخُصَّ الْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ بِمَا تَعَلَّقَ بِالْأَمْوَالِ (الْقَتْل) وَهُوَ فِعْلٌ مُؤَثِّرٌ فِي إزْهَاقِ الرُّوحِ وَهُوَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ عَمْدٌ وَخَطَأٌ وَشِبْهُ عَمْدٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ هُوَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ عَمْدٌ وَشِبْهُ عَمْدٍ وَخَطَأٌ وَجَارٍ مَجْرَى الْخَطَأِ وَقَتْلٌ بِسَبَبٍ وَاخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَالْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ أَنْوَاعِ قَتْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْآتِيَةُ وَإِلَّا فَالْقَتْلُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ وَقَتْلِ الْحَرْبِيِّ وَالْقَتْلِ صَلْبًا فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ بَيَّنَ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ (أَمَّا عَمْدٌ وَهُوَ قَتْلُ آدَمِيٍّ قَصْدًا) احْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْخَطَأِ وَلَا يَخْفَى مَا فِي قَوْلِ الْوِقَايَةِ ضَرَبَهُ قَصْدًا مِنْ التَّسَامُحِ (بِنَحْوِ سِلَاحٍ) أَيْ بِسِلَاحٍ وَنَحْوِهِ (فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ) فَإِنَّ الْقَصْدَ فِعْلُ الْقَلْبِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ اسْتِعْمَالُ الْآلَةِ الْقَاتِلَةِ غَالِبًا مَقَامَهُ تَيْسِيرًا كَمَا أُقِيمَ السَّفَرُ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ (كَلِيطَةٍ وَنَارٍ وَزُجَاجٍ وَمُحَدَّدٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَجَرٍ) فَإِنَّ الْآلَةَ الْقَاتِلَةَ غَالِبًا هِيَ الْمَحْدُودَةُ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُعَدَّةُ لِلْقَتْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ فَإِنَّهُمَا مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ دُونَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ) أَقُولُ مُجَرَّدُ الْأَمْرِ النَّفْسَانِيِّ لَا يَكُونُ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا إذْ الْإِيمَانُ مَنْ لَا بُدَّ مِنْ الْجَزْمِ بِهِ اعْتِقَادًا مَعَ الْقَوْلِ وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ بِدُونِهِ وَالْكُفْرُ يُوجَدُ بِإِرَادَتِهِ لِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ لَا بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ وَلَا وَجْهَ لِنَفْيِهِ كَوْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِحُصُولِهِمَا بِهَا وَقَدْ نَاقَضَ نَفْسَهُ بِمَا قَدَّمَهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ مُخَالِفًا لِهَذَا وَبَسَطْنَاهُ بِرِسَالَةٍ سَمَّيْتهَا مَرَاقِي الْعُلَا فِي تَحْرِيرِ مَسْأَلَةِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَضِدِّهِ وَالطَّلَا (قَوْلُهُ وَلَا يُكْرَهُ تَخْلِيلُهَا) أَيْ فَيَكُونُ مُبَاحًا وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ يَكُونُ وَاجِبًا لِحِفْظِ الْمَالِ عَنْ الضَّيَاعِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْخَمْرَ مَالٌ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى صَحَّ تَوْكِيلُ مُسْلِمٍ ذِمِّيًّا بِبَيْعِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً بِالْإِتْلَافِ لَهُ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ (قَوْلُهُ وَالِانْتِبَاذُ) قَالَ الزَّيْلَعِيُّ وَإِنْ انْتَبَذَ فِيهَا قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَمْرِ لَا إشْكَالَ فِي حِلِّهِ وَطَهَارَتِهِ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِيهَا الْخَمْرُ ثُمَّ اُنْتُبِذَ فِيهَا يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يَطْهُرُ بِغُسْلِهِ ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِخِلَافِ الْعَتِيقِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ كُلَّ مَرَّةٍ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ غُسْلِ مَا لَا يَنْعَصِرُ وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَمْلَأُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رِيحًا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ. اهـ.
(فَرْعٌ مُهِمٌّ مِنْ التَّبْيِينِ) ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ جَائِزٌ إذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً وَلَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ آخَرُ غَيْرَهُ وَعَزَاهُ إلَى الذَّخِيرَةِ
[شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِامْتِشَاطُ بِهِ]
(كِتَابُ الْجِنَايَاتِ) (قَوْلُهُ وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ خُصَّتْ) يَعْنِي فِي هَذَا الْبَابِ وَإِلَّا فَجِنَايَاتُ الْحَجِّ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِنَفْسِ الْآدَمِيِّ وَلَا أَطْرَافِهِ مَعَ إطْلَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَيْهَا الْجِنَايَةَ (قَوْلُهُ وَمُحَدَّدِ خَشَبٍ وَمُحَدَّدِ حَجَرٍ) لَمْ أَرَ فِيهِ خِلَافًا وَالْخِلَافُ فِي الْمُثْقَلِ مِنْ الْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ كَالنُّحَاسِ