إليه، من أجل مزيد من السرية والكتمان: الزوجة والصديق وابن الأخ والابن (المتبنّى) .. ثم انطلق بعد ذلك في توسيع نطاق الدعوة، يعضده ساعده الأيمن أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) .. وما لبثت اللبنات أن ازدادت عددا، والبناء ارتفاعا، والأسس عمقا ورسوخا..

استمر العمل السرّي ثلاث أو أربع سنوات، على خلاف في الروايات، والدعوة خلاله تسير ببطء شديد، رغبة في التركيز والاختيار البصير بالعناصر الأكثر جدارة وكفاءة ومقدرة على تحمل مسؤولية الإيمان.. وكان القرآن الكريم يتنزل خلال ذلك مؤكّدا على قضية واحدة وأمر واحد، لم يتجاوزه إلى (المسائل) الآخرى إلا قليلا، تلك هي قضية (العقيدة) التي راح القرآن يحبك، بأسلوبه المعجز وآياته البينات، جوانبها الشاملة وبناءها المتشابك في نفوس أتباعه وعقولهم وضمائرهم، ويحيلهم واحدا بعد آخر، ويوما بعد يوم، إلى شخوص حيّة تتحرك بالقرآن، فتكون حركتها تعبيرا حيويا واقعيا عن التصور الجديد الذي طرحه القرآن، والذي جاء لينعكس بالضرورة على السلوك اليومي للإنسان المسلم.. وكلما تقدم الزمن بالدعوة الإسلامية وتنزلت الآيات البينات لبناء العقيدة، كلما نمت قواعد الدعوة الإسلامية وازدادت (تمثلا) لهذه الآيات، الأمر الذي جعلها تنمو بشكل مواز تماما لنمو البناء العقيدي الذي يطرحه القرآن ذاته لكي يحرك به (واقع) النفس البشرية ويتعامل معها تعاملا حركيا يرفض منطق الجدل واللاهوت والنظريات.

ولقد مرت هذه السنون الطويلة من مرحلة العمل السرّي ولم يتجاوز عدد الدعاة خلالها- كما رأينا- الخمسين رجلا وامرأة، وهو عدد قليل جدا إذا ما قورن بهذا الامتداد الزمني الطويل. إلا أن التركيز والعمق الذي تميز به كل واحد من هؤلاء، جعل المنتمين إلى الإسلام قادرين، بعد قليل، على تحمل الضغوط الوثنية القاسية التي ستصبّ عليهم من أجل فتنتهم عن دينهم: تعذيبا واضطهادا وقتلا ونفيا وسخرية وقطيعة واحتقارا.. وعلى تجاوز (المحنة) السوداء وهم أصلب عودا وأعمق ثقة وأشد إيمانا.. وفي جوارهم آيات القرآن تشد أزرهم وتعمق يقينهم الجديد.. والرسول صلى الله عليه وسلم يقودهم من ساحة إلى ساحة صوب مشارف الفوز والانتصار.

ولا ريب أن اعتماد (المقاييس المادية) - كما فعل عدد من المستشرقين أمثال كريمر وجرمه وغيرهما- لفحص الدوافع التي قادت المسلمين وغير

طور بواسطة نورين ميديا © 2015