الصعبة.. وأعقب ذلك تمهيد نفسي وذهني (مباشر) تمثّل بتلك الأسابيع الطوال من العزلة والتأمل والتحنث في غار حراء، انشقاقا على الأعراف والممارسات الجاهلية، واندماجا في الكون على مداه، وبحثا عن (العلّة الكافية) لخلقه على هذه الصورة من الدقّة والتنسيق والتماسك والنظام، وسعيا وراء (الشريعة) التي تعيد الإنسان إلى الانسجام مع النواميس التي تتحرك بموجبها السماوات والأرض..
وما لبث الوحي الأمين أن جاء، في اللحظة المناسبة والمكان المناسب اللذين اختارتهما العناية الإلهية لإرسال محمد إلى الناس كافة.. محمد الذي لم يكن يعرف، حتى هذه اللحظة، المصير الذي ينتظره، والدور الذي سيكلف بأدائه إزاء الإنسان والعالم. ومن ثم جاءت (هزّة) الوحي مفاجأة مذهلة لهذا الرجل المنعزل في الغار بعيدا عن الناس.. رافقها وأعقبها رعب وقلق وشك واضطراب وتمزق نفسي وحمى قاسية، جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر المكان في أعقاب كل لقاء، وهو يرتجف خوفا وإشفاقا، من أجل أن يلجأ إلى سنده العاطفي الأول والأخير متمثلا بزوجته البرة خديجة التي كانت عند حسن الظن دوما..
وما أن اطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صدق رسالته، في أعقاب تأكيدات خديجة وابن عمها ورقة بن نوفل، وإثر تكرر نزول الوحي عليه، حتى بدأ- بأمر من هذا الوحي- بالعمل.. كان عليه أن يدع مرحلة (العزلة) والانقطاع، وأن يمزق دثار الخوف والقلق والشك.. وأن ينطلق ليبدأ أولى اتصالاته من أجل بناء الحلقات الأولى من الدعاة، أولئك الذين كتب عليهم، أن يتحملوا شرف الانضواء إلى أول قاعدة بشرية للدعوة الإسلامية في تاريخها الطويل.. وإذ كانت الدعوة الجديدة تتحرك تحت شعار (لا إله إلا الله) بكل أبعاده الشاملة وآفاقه الرحبة، فقد كانت تمثل ردا حاسما على كل القيم الجاهلية، وانقلابا جذريا على مواضعات العصر وممارساته ومطامحه القريبة العاجلة.. وكان ارتطامها بمراكز السلطة والنفوذ والتوجيه في مجتمع كهذا أمرا محتما.. ومن ثم كان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجتاز مرحلة من (العمل السرّي) ، غير المعلن، من أجل أن يرسي دعائم حركته ويضم إليها أوثق العناصر وأعمقها إيمانا، ويسعى خلال ذلك إلى مزيد من توثيق هذا الإيمان وتعميقه في نفوس الدعاة.. فعليهم ستقع المسؤولية، وعلى مدى مقدرتهم على التحمل سيقوم البناء.. ولقد بدأ الرسول اتصالاته بأقرب الناس