السنين الطويلة ولا يكاد يرسم سوى خطوط عريضة عن طفولة وشباب الرجل الذي قدّر له أن يعيد صياغة الحياة الدنيا بما ينسجم ونواميس الكون.. وتلك هي الصعوبة الكبرى في تاريخ الرجال الكبار في حياة البشرية. إن اهتمام الناس بأبطالهم يقتفي أثر النواميس الطبيعية ذاتها، فحيثما تجمعت الأضواء في جانب حيثما زادت الظلال المجاورة عتمة وخفاء.. وما أن يبرز البطل فجأة على مسرح الأحداث حتى تسلط عليه الأضواء فلا يتبقى من سيرته أية مساحة غير معرضة للإنارة والتلوين.. لكنه قبل أن يظهر.. قبل أن يجيء من وراء الكواليس، يحيطه الغموض، ويصعب على الناظرين تمييز جل مساحات حياته مهما امتدت سنوّ هذه الحياة..
إن أربعين سنة من حياة رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم هي الأرضية التي أقيمت عليها نبوته الشامخة.. ترى ما الذي قدمته لنا الروايات عن أمداء هذه الأرضية؟ ..
النسب الأصيل لأمه وأبيه في بيئة (ترفض) الهجناء والمختلطين.. اليتم السريع للأب والأم ولما يتجاوز المولود عهد طفولته.. الفقر والحرمان في صحراء تزيد نار الفقر والحرمان اشتعالا.. رحلتان بعيدتان إلى الشام إحداهما صبيا برفقة عمه أبي طالب والآخرى شابا مسؤولا عن تجارة للسيدة خديجة.. الإسهام الحريص في عدد من الأحداث المهمة التي شهدتها مكة: حرب الفجار، حلف الفضول، بناء الكعبة.. الزواج بالسيدة خديجة بعد عودته من رحلته الثانية إلى الشام..
الرفض الحاسم لقيم الوثنية وعاداتها وأخلاقياتها وتقاليدها.. ثم فترات من العزلة والتأمل في غار حراء بعيدا عن صخب مكة وضجيجها.
وبين هذه الأحداث المرئية الأبعاد جميعا لمحات غير مرئية الأبعاد، ذات دلالة عميقة، أكدتها الروايات والأسانيد، جاءت بمثابة إرهاصات أولية عن أن هذا الإنسان سيلعب دوره في القضية الكبرى في تاريخ البشرية، قضية الحوار المفتوح بين السماء والأرض.. الخير العميم الذي راح يتدفق في مضارب مرضعته حليمة بعد إعسار وجفاف، شق صدره واستخراح علقة سوداء من قلبه قبل أن يتفتح وعيه على الحياة.. إشارات أولى عن نبوته تصدر عن الراهب (بحيرى) على تخوم الشام.. ولن نذكر هنا أية واقعة أخرى لعب الخيال الشعبي والإسرائيلي دورا بارزا فيها.
تلك هي النقاط الأساسية التي لم يتمكن (باحث) لحدّ الآن أن يعثر على ما