الرسول فأعاد: يا محمد أحسن في مواليّ. فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع الرسول وراح يكرر توسلاته، فرد عليه الرسول، وقد كست وجهه ملامح الغضب: ويحك أرسلني، فأجاب ابن أبي: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليريد إنزال عقاب بهم، بل أن يغادروا حصونهم إلى حيث يشاؤون ما داموا قد نزلوا عند حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا أجاب عبد الله: هم لك! ثم التفت إلى أصحابه قائلا: خلّوهم، لعنهم الله ولعنه معهم!!
ونزلت آيات القرآن منددة بهذا الموقف المنافق، المتأرجح بين ولاية الإسلام وولاية أعدائه* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (?) .
وفي حصار بني النضير، القبيلة اليهودية الثانية التي طردت من المدينة في أعقاب تامرها على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة للهجرة، أعاد ابن أبي وكبار المنافقين (تمثيل نفس الدور) الذي مثلوه مع بني قينقاع، إذ بعثوا إلى بني النضير، وهم يعانون من حصار المسلمين وقبضتهم المحكمة أن «اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم. إن قاتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم» ، إلا أن المنافقين الذين كانوا (يقولون ما لا يفعلون) مع المعسكر الإسلامي، كانوا يقولون ما لا يفعلون مع كل معسكر يظهرون له الودّ والإخلاص، ذلك إن أيّا منهم لم يكن شخصية واحدة تتخذ موقفا موحدا إزاء القضية، وإنما شخصيتين. ولقد ظل بنو النضير ينتظرون نجدة رفاقهم دونما جدوى حتى سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم الجلاء عن ديارهم، بعد أن سدّت كل المنافذ.. وبعد قليل جاءت آيات القرآن، فاضحة منددة كاشفة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ.. (?) .