في العصر الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: مجتمع قبلي لا يعرف الوحدة والتماسك والنظام، ولم يعتد الانقياد لسلطة موحدة أو الالتزام بشعائر وأخلاقيات وعلاقات ثابتة دائمة، وقد علمته تقاليد وممارسات قرون طويلة من التسيّب والانفلات التمرد على أية محاولة للضبط والتنظيم. والعربي، فضلا عن هذا، لا يعرف انتماء لغير قبيلته وخضوعا لغير مشايخها وانقيادا لغير مواقفها التي تحددها مصالحها القبلية وحرصها على السيادة والاستعلاء بين القبائل.

ولقد جاء الإسلام دعوة إلى الانضباط والالتزام والنظام بوجه الفوضى والتسيب والانفلات، التي ألفها العربي، كما أنه جاء لكي يصهر الوحدات القبلية في إطار مجتمع موحد متماسك، تذوب فيه الإحساسات القبلية والرغبات الجزئية الموقوتة في السيادة والاستعلاء. ووجد العربي في هاتين الدعوتين خروجا على تقاليده وممارساته وأعرافه، ولم يكن من السهل عليه تجاوزها جميعا إلى آفاق الإسلام ونظامه الشامل لكل فاعليات الحياة اليومية والذي يحتم عليه الانضباط والالتزام في كل خطوة يخطوها وعمل يمارسه وتجربة يعانيها، فضلا عن أنه يدعوه إلى التخلي عن إحساسه القبلي وكسر الإطار الذي اعتاد التحرك داخله إلى المجتمع الشامل الموحد الذي تتلاشى فيه الحساسيات والأعراف القبلية ويخضع فيه الجميع لسلطة واحدة ودستور واحد يصدر عن مشرّع واحد هو الله سبحانه.

إن سببا من أهم الأسباب التي جعلت الإسلام يعاني هذا العناء الصعب إزاء الجاهلية ويكافح هذا الكفاح الطويل لتطويعها وإلغائها، يعود إلى هذا البعد الاجتماعي الذي قاد إلى حركة المقاومة الوثنية الصريحة لدعوة الإسلام، كما قاد إلى حركة النفاق داخل الصفوف المسلمة وسنراه يقود- فيما بعد- إلى حركتي (الردة) و (الفتنة) في عصر الراشدين.

وهكذا كان هذا العائق الاجتماعي يقف أمام امتداد الإسلام في يثرب نفسها التي اتخذت نواة لدولته الناشئة، حيث ظل عدد كبير من العرب الوثنيين يقاومون الدين الجديد ويعلنون عن رفضهم الانتماء إليه والخضوع لسلطته التي حددها ميثاق المدينة الذي أصدره الرسول صلى الله عليه وسلم إثر دخوله يثرب. ولما لم يكن وجود المسلمين في المدينة قد تمركز بعد، سيما وأنها ملأى بالجيوب اليهودية والوثنية، ولما كان الصراع مع قريش لم تتحدد خطوطه بعد، حيث بدا أنها سوف لن تدع المسلمين يقر لهم قرار، وأنها ستظل تقاتلهم حتى تقضي على دعوتهم الجديدة،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015