وقد تحققت النبوءة القرآنية التي لا تخطىء، وفي بضع سنين ألحقت القوات البيزنطية، بقيادة هرقل، هزيمة ساحقة بالقوات الفارسية، استردت في أثرها بلاد الشام وفلسطين وأجزاء واسعة من العراق، وذهب هرقل إلى بيت المقدس لكي يسجد شكرا لله، وغمرت الفرحة قلوب القلة المضطهدة في ظلمات الوثنية.
لكن هذا كله لم يمنع الكثرة من النصارى العرب أن تلعب دورها في العصر المدني بمواجهة الإسلام وتتخذ المواقف العدائية ضده على شتى المستويات بدفع من الدولة والكنيسة البيزنطية في معظم الأحيان، وبمعزل عنهما في بعض الأحيان.
[3]
والعصر المدني، على خلاف العصر المكي، غني بالروايات والأحداث التي تلقي ضوآ شاملا على العلاقات بين الطرفين، سيما وأن الإسلام كان قد تمكن آنذاك من بناء دولته التي تتجاوز في سياساتها وعلاقاتها الحدود الإقليمية والقومية صوب العالم المحيط حيث تقبع الدولة البيزنطية وحلفاؤها العرب وهم جميعا محسوبون على المعسكر النصراني، منتمون إليه جدا وإخلاصا، أو هزلا واكتسابا.. والأمر سواء.
في السنين الأولى من العصر المدني كان الرسول صلى الله عليه وسلم منهمكا في تثبيت أسس الدولة الجديدة وفي مجابهة القوى الوثنية واليهودية، ولم يكن الامتداد الجغرافي للدولة الإسلامية آنذاك قد بلغ الحدّ الذي يستفز الدولة البيزنطية وحلفاءها العرب، ويدفعهم إلى إثارة المشاكل في طريق الإسلام وحكومته.
ورغم ذلك فإننا نجد في السور المدنية آيات كثيرة في النصارى وعقائدهم وما كان بينهم من خلاف ونزاع وهي أكثر وأحدّ منها في القرآن المكي، وهي تحمل تنديدا أكثر.. وهذا الفرق يلهم أن دائرة الاتصال بين النبي صلى الله عليه وسلم والنصارى في العهد المدني كانت أوسع منها في ذلك العهد، وأن المؤثرات التي كان يخضع لها النصارى الذين لقيهم النبي واحتك بهم أكثر تنوعا، وأن الذين لقيهم في العهد المكي كانوا أكثر تجردا عن الهوى والرغبات المادية وأكثر استعدادا للاستجابة للدعوة والاندماج فيها. وهناك رواية تذكر إنه كان في المدينة جالية