التاريخ.. لكنهم لم ينجوا من الوقوع في أسر المذهبية المحدودة، والنظرة الذاتية، واضطراب التجربة النفسية في عملية الاستشراف والاستقراء التاريخي، الأمر الذي أدى إلى تأرجح مواقع رؤياهم، والوقوع بالتالي في كثير من الأخطاء، ليس هذا بطبيعة الحال مجال سردها وتحليلها.

إن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم تعلمنا كيف يرتبط تاريخ الدعوات بالحركة.. حركة الإنسان الفرد وحركة الجماعة، كما تعلمنا أنه ليس من المحتم أبدا أن تكون (الحركة) صدورا عن صراع النقيضين كما أكد هيغل وماركس وغيرهما، بل إنها في كثير من الأحيان تجيء بمثابة استجابة داخلية، مقرونة بعمل خارجي، لنداء من فوق.. إن هذا الحوار بين القيم العليا والوجود السفلي هو الذي يحرك- في أحيان كثيرة- أحداث التاريخ على خط صاعد.

إن المثل الأعلى كان دائما بمثابة هدف يتحرك إليه الذين يتخبطون من تحت أو الذين يتقلبون في الظلمات، أو الذين يتعذبون بشتى صنوف العذاب وتمنعهم القوى المضادة من تحقيق أهدافهم (والهجرة تمثل حركة هذه الجماعة الأخيرة) .. إن بحث الضائعين والحائرين والمعذبين والمأسورين، عن النجاة، عن مثل أعلى، عن هدف يطمحون للوصول إليه.. هذا البحث الجاد كان في معظم الأحيان المحرك الذي يسوق الأفراد والجماعات إلى مصائرهم، ويصنع تاريخهم.. وإذن فإن من الخطأ والتزييف أن نصدر حكما على كل حركات التاريخ بأنها جاءت نتيجة لصراع النقيضين..

إن (الصراع) نفسه يتخذ أشكالا عديدة لا تقتصر على تقابل الضدين وتغلّب أحدهما على الآخر.. إنه يبدو- أحيانا- إرادة ذاتية تسعى إلى التوحد والإئتمان الذاتي في وجدان الإنسان ومع المحيط الخارجي، ويبدو أحيانا أخرى رغبة فعّالة في تحقيق تفاهم متبادل وسلم عام بين الإنسان والوجود.. وهو يبدو أحيانا ثالثة عملية استقطاب للقوى والطاقات، وتنظيم لها، وحماية لمقدراتها من أجل أن تصبّ جميعا في مجرى المبادىء الجديدة والدعوات الكبرى (كما حدث في تجربة الهجرة) ، وكل هذه الأشكال من الصراع لا نجد فيها تقابل نقيضين بقدر ما نجد محاولة للالتئام والتوحد والاستقطاب والتجمع.. وبعد هذا- وخلاله أيضا- لا بدّ للحركات أن تجتاز صراعا بين النقائض، لكنها نقائض من مستويات شتى:

نفسية وفكرية وعقيدية ووجدانية وعرفية واجتماعية وسياسية واقتصادية.. إلى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015