ومرة ثالثة في الطريق إلى يثرب، بعد ثلاث ليال من المكوث في الغار.. إن (سراقة بن مالك) الذي خلبت لبّه الجائزة التي رصدتها قريش لمن يأتي بالرسول حيا أو ميتا، يلهث الآن ركضا وراءها، بفرسه المنطلقة ورمحه المصوب إلى هدفه.. إن سراقة كألوف من الأعراب، بل كألوف من الناس، نلتقي بهم في كل مكان وزمان.. أولئك الذين ما أن تبرق أمام أعينهم قطع النقود، وتطرق أسماعهم أصوات الذهب والفضة وهي ترن، حتى يصبحوا على استعداد لأن يبيعوا مبادئهم وضمائرهم وشرفهم وعرضهم، من أجل أن يصلوا إلى قطع النقود ويضعوا أيديهم على أكوام الذهب والفضة.. إنهم موجودون في كل مكان وزمان. ولذا كانت خير وسيلة للإتيان بالزعماء الهاربين من وجه الظلم والطغيان هو أن يعلن عن جائزة قدرها ( ... ) لمن يأتي بالهارب حيا أو ميتا ... لكن إرادة الله لن تدع الرغائب السافلة تطغى على الأهداف العليا ... إن هذا الطغيان يحدث- يوم يحدث- عندما يتخلى أصحاب الأهداف الكبيرة عن حشد طاقاتهم والتخطيط العاقل لخطواتهم، والتلقي الكامل عن خالقهم، حينذاك تغدو كل آمالهم وتمنياتهم كالزبد الذي يذهب جفاء ولا ينفع الناس.. أما والرسول قد استكمل الأسباب فإن سراقة تعثر به فرسه وتمرغه بالتراب، كلما اقترب من هدفه، مرة ومرتين.. فيطلب الأمان.. إنه الآن لا يطارد رجلين مرهقين، قد عصرهما الجوع، وأرهقهما السفر الطويل، والتشرّد.. لكنه يقف بإزاء جند الله التي لا ترى، فأنى له ما يريد؟ إنه بعد دقائق يلوي زمام فرسه ويقفل عائدا.. وكلما رأى أحدا من اللاهثين كالكلاب الجائعة ردّه قائلا: كفيت هذا الوجه. وذلك ما طلبه منه الرسول!.

ويحدثنا جماعة من الأنصار عن أيام الانتظار القلقة التي سبقت وصول الرسول صلى الله عليه وسلم فيقولون «لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرّتنا، ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فو الله لا نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك في أيام حارّة حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أول من رآه رجل من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع، وإنا ننتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015