بنفيه بعيدا في منقطع الصحراء، وفي الحالتين كان صوته سيصل، مجتازا الحواجز والعوائق، ومن ثم فإن رأيا بقتله وتفريق دمه بين القبائل هو الذي حاز الموافقة والإعجاب. إنهم إن استطاعوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد استطاعوا قتل الدعوة التي لم تستكمل أسبابها بعد.. وإن طالبتهم بنو هاشم بدمه فسيشيرون إلى العشائر جميعا وإلى سيوف أبنائها حيث تقطر دماء الرسول!!

ويجيء أمر الله يحمله الوحي إلى الرسول: تحرك يا محمد. كانت تلك هي الإشارة التي ينتظرها الرسول صلى الله عليه وسلم بفارغ الصبر، لكن شوقه للهجرة، وتحرقه لأن يضع خطواته على الأرض الموعودة حيث أصحابه القدامى والجدد ينتظرونه على أحرّ من الجمر.. ورغم يقينه الكامل بأن الله معه يرعاه، ويسدّد خطاه، فإنه لم يتعجل الحركة، ولم يرتجل الخطوات. كان عليه أن يخطط للهجرة، مستخدما كل ما وهب من إمكانات الفكر والبصيرة والإرادة.. لأنه بهذا وحده يستحق نصر الله ووعده.. وإلا فلأي شيء منحنا الله بصائر وعقولا وحرية وقدرة على التحرك والتخطيط؟ وما أبرع البرنامج الذي رسمه رسولنا صلى الله عليه وسلم من أجل أن يصل إلى الهدف بأكبر قدر ممكن من الضمانات!!

انتقى من بين أصحابه أول اثنين أسلما في تاريخ الدعوة: أبا بكر وعليا رضي الله عنهما، واستبقاهما لكي يؤديا الأدوار التي رسمت لهما في حركة الهجرة. أما علي فلكي يؤدي مهمة مزدوجة.. الإيهام ورد الأمانات إلى أهلها، وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم «نم على فراشي، وتسجّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم» (?) . ورب قائل يقول: إن وراء الهجرة هدفا أكبر بكثير من التمسك بجزئيات أخلاقية قد يسمح الظرف الخطير بتجاوزها. لكن منطق رسول الإسلام شيء آخر.. ما الفرق بين الإسلام وبين المبادىء الآخرى إذا كان هو متأسيا بها في تخليه عن أخلاقياته في ساعات المحنة والخطر؟ وماذا سيقول المشركون لو غادر (الأمين) مكة دون أن يردّ إليهم أمانتهم،؟ ما أسرع ما يمكن أن يتهموه، حيث يأكلهم الغيظ: الأمين تحول إلى سارق، وضاعت الأمانة.. وحاشاه!

أما أبو بكر فقد اختير ليكون رفيق النبي وأخاه في هجرته.. تسلل إليه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015