الإرادة البشرية بالمشيئة الإلهية- خلال الحدث- قبلية ولا بعدية.. وإنما تسير الاثنتان في انسجام رائع، لأن هذه من تلك ولأن الإنسان في أصغر جزئيات الحركة وفي أكبرها إنما ينفذ قدر الله وناموسه في الأرض، في مدى الحرية التي اتيحت له. أما أن يجيء الدعاء والتوجه قبل التخطيط فحسب، أو بعد التنفيذ فحسب، فهو من قبيل الثنائيات التي ترفضها مبادىء السماء أشد الرفض لأنها تفصل بين الله والإنسان، وتقسم حظ الاثنين في حركة التاريخ بما لا يتفق أساسا والسنن الكبرى.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم هيأ الأسباب (الإرادية) الكاملة لنجاح الحركة وهو ينظر إلى الله، ووضع خطواته الأولى على الدرب وهو يدعو الله.. وما لبثت الأسباب أن أتت أكلها، والخطوات أن انتهت إلى هدفها، وظل الرسول ينظر إلى الله ويدعوه.
استغرق (هيكل) الهجرة زمنا طويلا.. حمل الرسول وأصحابه معاولهم وبدأوا يحفرون الأسس من أجل أن يستقيم البناء. إن الإسلام جاء لكي يعبر عن وجوده في عالمنا من خلال دوائر ثلاث، يتداخل بعضها في بعض، وتتسع صوب الخارج لكي تشمل مزيدا من المساحات: دائرة الإنسان، فالدولة، فالحضارة.
ولقد اجتاز الإسلام في مكة دائرة الإنسان، ثم ما لبثت العوائق السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية أن صدته عن المضي في الطريق صوب الدائرة الثانية حيث الدولة، لأنه بلا دولة ستظل دائرة الإنسان، التي هي أشبه بنواة لا يحميها جدار، ستظل مفتوحة على الخارج المضاد بكل أثقاله وضغوطه وإمكاناته المادية والروحية، ولن يستطيع الإنسان (الفرد) أو (الجماعة) التي لا تحميها (دولة) أن يمارسا مهمتهما حتى النهاية، سيما إذا كانت قيمهما وأخلاقياتهما تمثلان رفضا حاسما لقيم الواقع الخارجي والتجربة المعاشة، ولا بد إذن من إيجاد الأرضية الصالحة التي يتحرك عليها المسلم، قبل أن تسحقه الظروف الخارجية أو تنحرف به عن الطريق، وليست هذه الأرضية سوى الدائرة الثانية، وليست هذه الدائرة سوى الدولة التي كان على المسلمين أن يقيموها وإلا ضاعوا!!
وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم تبدأ منذ اللحظات التي أدرك فيها أن مكة لا تصلح لقيام الدولة وأن واديها الذي تحاصره الجبال، وكعبتها التي تعج بالأوثان، لا