المكافح الأول

نفضنا أيدينا من تراب القبر، ثم التفت إلى شاب بجانبي أسأله عن هذه النفس المؤمنة - التي فارقت دنيا الشر والإثم وعالم البغي والعدوان، واختار الله لها ما عنده-: فقال لي: إنها امرأة نفساء، تركت ستة أولاد صغار، وماتت وهي تكافخ آلام الوضع لتلفظ بالسابع إلى ساحل الحياة.

فالتفت إلى الوالد الشقي الذي أصبح أما وأبا لستة كزغب القطا، ليكافح- هو الآخر- ولكن بمفرده، في سبيل إعداد النسل للحياه، وحييته بدمعة حرى، حيا- هو- بأحسن منها، وأوصيته بالصبر ودعوت الله له.

وفي صباح أمس لقيني صديقي السيد محمد بن كانون فقال لي- بعد التحية -: ألم يبلغك أن صديقنا السيد علي قادري قد ولد له ثلاثة أبناء توائم؟ فقلت له مدهوشا: كلا، وهل وصل الوفد الكريم كله إلى دنيانا بخير؟ قال: كلهم- والحمد لله- قد وصلوا بخير، فقلت له: وكيف حال أمهم؟ قال: هي في قيد الحياة- على كل حال- وإن لقيت في سبيل ذلك الشدائد والأهوال، إذ تعسر عليها الوضع، ولم تتخلص من هذا الحمل الثقيل إلا بعملية جراحية في البطن رغم ضعفها، وهي الآن تقاسي ألمين مرهقين: ألم الوضع، وألم العملية، فقلت له: وكيف حال الصديق الوالد؟ قال: هو -كما تعهده- يحمد الله على كل حال.

فكرت- بعد ذلك- طويلا في هذه المهمة الشاقة التي أعد الله لها المرأة على ضعفها ورقتها، وقلت: لك الله أيتها الأم، فإنك إن عشت، عشت من أجل النسل وإن مت، مت في سبيل النسل، ولك الله، فأنت المكافح الأول لعمارة هذه الحياة،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015