فكيف تنبت- إذن- هذه النابتة الكريمة، في هذه البيئة اللئيمة؟ وبقي هذا الخاطر يلح علي، ويستبد بمشاعري، إلى أن أنتهى بي المطاف إلى مجلس يضم جماعة من الإخوان دعوني إلى الجلوس معهم، ومن أغرب المصادفات، أن كان أول شيء سمعته هو ما كنت أفكر فيه: إذ قال أحد الجلساء متضجرا: أشد ما يؤلمني أن أرى المعلمين من أقل الناس محافظة على تعاليم الدين، فقلت له: أتقول ما سمعت أو ما رأيت؟ فقال: بل ما رأيت، فقلت له: وماذا رأيت؟ قال: رأيت معلما لا يصلي، فقلت له: هكذا، رأيت معلما واحدا لا يصلي، فحكمت على أن المعلمين كلهم لا يصلون؟ فقال لي: إن معلما واحدا يفسد جيلا كاملا، مع أن المأساة ليست مقصورة على معلم واحد وإنما الذي رأيته فقط هو معلم واحد، أما الذين لم أرهم فلا يكونون إلا كثيرا، إذ لو كان معلما واحدا فلربما لم أطلع عليه.
اللهم لطفك، فقد بلغ السيل الزبى، ولم يبق من ينقذ الغرقى: ومرض الأطباء، فمن للمرضى؟ وكنت أشكو من عدم من يقوم الليل، فإذا بغيري يشكو ترك المعلمين للصلاة المفروضة، وهكذا:
من غص داوى بشرب الماء غصته … فكيف يصنع من قد غص بالماء؟
إن المدنيه الغربية منذ طلعت على الناس شمسها، وشمس الإسلام تتوارى بالحجاب، ولا تظهر منها إلا أشعة ضئيلة، في بقاع قليلة، وتضاءلت تلك القداسة التي كان المسلمون يكنونها لدينهم، وحل محلها تقديس بالغ، وتقليد فاضح لكل ما يحمل طابع الغرب، وأصبح المحافظون على صلاتهم من المسلمين أقلية ضئيلة وأقل منهم من يحافظون على تأديتها في وقتها وأصبح الذي يتحدث عن قيام الليل كمن يتحدث عن الأساطير، ويطوح بالناس في مجال من الخيال، لا تقوي على التحليق في أجوائها أجنحتهم الضعيفة الواهية.
ولكنني- رغم كل شيء- أتحدث عن قيام الليل وأدعو إليه، وأرى فيه خير الدواء لهذه النفوس التي طال عليها أمد الغفلة فقست أشد قسوة، إن في الليل تنام العيون، ولكن تستيقظ القلوب، وتجد جوها الملائم للتفكير والتدبر والإستيحاء أما النهار فكما قال أحد الحكماء: (أبرص لا تتم فيه لذة)، على أن في إحياء الليل- زليادة على ذلك- ربحا لنصف العمر الضائع بالنوم: