فدعا صلى الله عليه وسلم- أولا إلى الأخوة أساس التعاون: "المسلم أخو
المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" ثم لما مهد إلى التعاون بالتنبيه إلى هذه الأخوة المقتضية للتعاون، دعا إلى التعاون فقال: "ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله".
إن تخاذل الأقوياء ينتج ضعفا، وتعاون الضعفاء ينتج قوة، وهو معنى قول القائل:
وضعيفان يغلبان قويا:
ولكن لا أحكم ولا أنفذ إلى صميم الواقع من قوله صلى الله عليه وسلم:
(المؤمن للمؤمن كاليدينة تغسل إحداهما الأخرى).
فاليد الواحدة لا تغسل نفسها، وكذلك الشخص الواحد لا يضطلع بأية مهمة وإن بدت هينة يسيرة.
فهذا الخبز- الذي لا يستغي عنه أحد والذي يظهر للناس أن الحصول عليه مستطاع لكل أحد- لا يصل إليك إلا بعد أن تتعاون عليه جهات كثيرة وأيد مختلفة، وبعد أن يمر في أطوار متسلسلة كأطوار الجنين قبل أن يخرج إلى دنياه، فأول ذلك تعاون الأرض والسماء، السماء بالسقي والأرض بالإنبات، وبين سقي السماء وإنبات الأرض يأتي صاحب المحراث وبعد أن ينضج الزرع يأتي صاحب المنجل ثم صاحب الرحي ثم صاحب الفرن، ولولا هذا التعاون المتصل المتسلسل لما حصلت على نصيبك من هذا الغذاء الضروري الأولى {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}.
كما يضرب صلى الله عليه وسلم المثل للتعاون بالبنيان الذي يشد بعضه بعضا.
فهذه اللبنات المتفرقة لا تجدي نفعا ولا تؤدي وظيفة إلا إذا تضامت وتساندت وتعاونت، عند ذلك فقط تصير بنيانا تعمر به الدنيا ويأوي إليه الناس وتتكون فيه الأسر وتتناسل حتى تصير أمما وشعوبا وأجيالا.