روي أنه قدم وفد نجران على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد
إبعث إلينا من يأخذ لك الحق ويعطيناه، فقال صلى الله عليه وسلم: والذى بعثني بالحق لأرسلن معكم القوي الأمين- ورددها ثلاثا ثم قال: "قم أبا عبيدة".
هذا الوسام العظيم يضعه قائد الإسلام العظيم لهذا البطل العظيم جعل الأعناق تتطلع إليه وتود لو يتاح لها الحصول عليه حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: ما تاقت نفسي إلى الإمارة إلا في ذلك اليوم، ولكن ليس هذا بالكثير على أبي عبيدة بطل القيادة الحازمة والفتوح العظيمة، والذي يتفحص عمر وجوه أصحابه في اللحظة الحاسمة ليلقي بهذه الأمانة العظمى- أمانة قيادة الأمة- إلى أقواهم اضطلاعا بها فلم يجد أحق بها وأهلها من أبي عبيدة لو لم يستأثر به ربه.
إن أبا عبيدة كان- وهو في صدر الإسلام عهد البطولة الفذة- منيه المتمني
فقد روي أن عمر بن الخطاب قال يوما لأصحابه: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله عز وجل، فقال: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزير جدا وجوهرا أنفقه في سبيل الله عز وجل وأتصدق به، ثم قال: تمنوا: قالوا ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين، قال عمر: ولكنني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة، فقالوا: ما ألوت الإسلام، أي ما نقصته حقه، فقال: ذاك الذي أردت.
وإذا كان الوصف بالأمانة والقوة لم يرد في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلا لرجل واحد هو أبو عبيدة رضي الله عنه فإنه لم يرد في كلام الله- القرآن- كذلك إلا لواحد هو موسى بن عمران عليه السلام، إذ يقول الله على لسان ابنة شعيب لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.
وبعد فإن جوا لا تشيع فيه روح الأمانة لا يمكن أن يكون صالحا للحياة الصالحة ولنعتبر ذلك بما نراه في حياتنا الحاضرة التي خلت من هذا الروح الطيب كيف أن الناس أصبحوا في جحيم لا يطاق من الغش والخيانة والأنانية الجامحة فلا الزوجة ترعى حق زوجها ولا الزوج يفى لزوجته ولا التاجر يصدق في معاملته ولا الشريك يأمن جانب شريكه وسرى ذلك حتى إلى حرم الصداقة فأصبح الصديق شديد الحذر من صديقه سيء الظن به حتى أصبحنا نعجب كثيرا بمثل قول البحترى: