ولكن حب المال طبيعة غلابة كما قال تعالى: بل {تُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}
ولذا جعل الله المال فتنة كما قال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} وهنا سر من أسرار هذا الكتاب الخالد، فإنه قلما يشير إلى فتنة المال إلا وقرنها بفتنه الولد لينبه إلى أن حب الولد وغريزة حفظ النوع وبقائه هما السر في فتنة المال وطغيان حبه على النفس، ولكن هذا مما لا ينبغي أن يكون عليه المؤمن الذي يعتقد أن رزق أولاده ليس عليه وإنما هو على من خلقهم {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} وإنما عليه أن يحسن تربيتهم وينشئهم على طاعة الله والخلق الحسن، فذلك هو الغنى الذي لا تصيبه الآفات والجوائح، ولا تلحقه التبعات والمسئوليات، أما أن يجعل الإنسان كل اهتمامه جمع المال من حله وحرامه ليضمن لأولاده السعادة بعد موته ولا يلتفت إليهم من ناحية تربيتهم وإعدادهم الإعداد الحسن، فذلك هو الخطأ الفاضح لأنه يكون كمن يضع كومة من الورق فوق رابية عالية في مهب العواصف وإننا نهدى إلى هؤلاء المغفلين القصة التالية لعلهم يهتدون.
دخل عمر بن عبيد على المنصور فقال له المنصور: عظني يا عمرو، فقال
له: أعظك بما سمعت أم بما رأيت؟ فقال المنصور: بل بما رأيت، فقال عمرو: مات عمر بن عبد العزيز وخلف أحد عشر ابنا وثمانية دنانير، فأصاب كل واحد ثمانية قراريط من تركة أبيه، ومات هشام بن عبد الملك فخلف أحد عشر ابنا وأحد عشر ألف ألف دينار، فأصاب كل واحد من أبنائه ألف ألف دينار، ورأيت فيما بعد ولدا من أولاد عمر قد حمل أموالا على مائة فرس قدمها في سبيل الله، ورأيت ولدا من أولاد هشام يسأل الناس الصدقة.
فيا أيها الأغنياء: ها هو ذا شهر محرم الحرام الذي يمتحن الله فيه إيمانكم
قد عاد من جديد، وها هم أولاء فقراكم يملأون الطرقات ويسدون الدروب وتلتصق على الثرى منهم الجنوب، فبرهنوا على إيمانكم وإنسانيتكم وأخرجوا زكاة أموالكم، وكفكفوا دموع اليتامى والأيامى من إخوانكم وأخواتكم وأنعشوا مشاريعكم التي تعمل لسعادتكم وتحرير بلاكم. {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} "ولا يغرنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين".