مستدلين بما وَهَى من الأدلة والبراهين، وإنما نعجب أشد العجب لبعض الباحثين العرب المعاصرين حين يهجمون على النحاة بحقٍّ وبغير حق، ويغلون في اتهامهم بوضع تلك القواعد الدقيقة وفرضها على الفصحاء من العرب، والفحول من الشعراء، وحتى رجال القراءات.
وفي كتاب "من أسرار اللغة" للدكتور إبراهيم أنيس، "نموذج" من هذا الهجوم الصاعق على النحويين: فالإعراب قصة، ولكن -كما يقول ذلك المؤلف- "ما أروعها قصة! لقد استمدت خيوطها من ظواهر لغوية متناثرة بين قبائل الجزية العربية، ثم حيكت وتَمَّ نسجها حياكةً محكمةً في أوخر القرن الأول الهجري, أو أوائل الثاني، على يد قوم من صناع الكلام, نشأوا وعاشوا معظم حياتهم في البيئة العراقية, ثم لم يكد ينتهي القرن الثاني الهجري حتى أصبح الإعراب حصنًا منيعًا، امتنع حتى على الكُتَّاب والخطباء والشعراء من فصحاء العربية، وشقَّ اقتحامه إلّا على قوم سُمُّوا فيما بعد بالنحاة "1.
وهذا غلو لا ريب فيه، فلقد يكون للنحاة عمل شخصي في تنسيق ما استنتجوه من أصول النحو وقواعده من كلام فصحاء العرب، ولقد يتشددون أحيانًا في رمي شاعر فحلٍ باللحن غير مبالين بضرورة شعرية ملجئة، ولقد ينكر بعضهم حتى على قرّاء القرآن ما صحَّ سنده من أوجه القراءات, ولعل من الممكن الاستغناء عن بعض مقاييسهم, أو تعويضها بأخرى أسهل وأيسر، ولكنَّ عملهم الأساسي في قواعد الإعراب يظلُّ أسمى من أن يُتَّهَمَ, وأوثق أن يجرح، فما جمعوا شواهدهم -كما رأينا- إلّا من البادية؛ موطن الفصاحة الأصيل, ولم تكمن معاييرهم التي نادوا بها إلّا صورةً معبرة عن طبيعة العربية الفصحى؛ في بنائها الصوتي, ودلالتها الموحية، وفي جميع مظاهرها البسيطة والمركبة،