ولم تبد لنا هاتان الملاحظتان فاستدتين إلّا لأن الوقائع والوثائق تكذبهما قديمًا وحديثًا, فليست دقة الإعراب بمانعة أحدًا من التخاطب بلغة معربة؛ فهذه اللاتينية في العصور القديمة، والألمانية في العصر الحاضر، يشتمل كل منهما على قواعد وإعراب، ربما لا يقل في دقته وتنوعه عن قواعد العربية الفصحى، ومع ذلك لا تزال الألمانية لغة تخاطب بين الألمان، وظلت اللاتينية مدةً طويلةً لغة تخاطب بين الرومان.
ويروي أحد الرحّالة الإنكليز "في القرن التاسع عشر الميلادي" أنه سمع الحركات الإعرابية تلتزم في وسط الجزيرة على ألسنة الناس في المدن"1.
ولم تتجرد اللهجات العربية الحديثة كلها من آثار الإعراب، فما تبرح هذه الآثار ظاهرةً في أقوال البُداة من مواطن متفرقة من العالم العربي، كأنها تجميد لبقايا يستحيل عليها العدم التام، والاضمحلال المطلق2، أو كأن طبيعة هذه اللغة العربية تأبى عليها أن تفقد ظاهرة الإعراب إلى الأبد, وليس في وسع باحث محقق أن ينكر احتفاظ البدو الفصحاء بالإعراب حتى زمن الجاحظ، فإن أديب العربية الكبير كان يحض الرواة والمتأدبين في "البيان والتبين" على الاختلاف إلى الفصحاء العقلاء من الأعراب؛ ليستمعوا بأحاديثهم العذاب، ثم يرووها بمخارج ألفاظها وإعراب تراكيبها3.
ولسنا نعجب لكوهين وأضرابه إذا ذهبوا إلى هذا الرأي الفاسد