لم يكن العلماء -مع ذلك- لينخدعوا بمثل هذا البدوي، أو يظلوا عاكفين على كلامه يتلقونه بالقبول، فما أسرع ما كان يفجؤهم منه ما ينال من فصاحته، ويغض من بيانه ويقدح فيه، فإذا هم يرفضون لغته ويمتنعون من التلقي عنه.
ولقد طرأ على ابن جني أحد من يدعي هذه الفصاحة، فميّزَ كلامه أول الأمر تمييزًا حَسَّنَ موقعه في نفسه، إلى أن أنشده يومًا شعرًا له يقول في بعض قوافيه "أشأؤها وأد أوها"1 فجمع بين الهمزتين، واستأنف من ذلك ما لا أصل له، ولا قياس يسوغه، وأبدل إلى الهمز حرفًا لا حظَّ في الهمز له، مع أنه "لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغير إحداهما، فكيف أن يقلب إلى الهمز قلبًا ساذجًا عن غير صنعة ما لا حظَّ له في الهمز، ثم يحقق الهمزتين جميعًا؟! هذا ما لا يبيحه قياس، ولا ورد بمثله سماع! "2.
ومع هذا التشدد في مقياس الفصاحة، واصطنع العرب لغة قريش للتفنن في القول، والإبانة في التعبير، فدلّ استصفاؤهم أياها على أنها اختارت من كلام العرب أبينه، وراعت أرشقه، واعتمدت أصفاه؛ فكان حقًّا ما ذهب إليه الباحثون من المستشرقين وغيرهم, من أن أهم مزية للعربية حفظت لها شخصيتها بين أخواتها الساميات إنما هي عزلتها عن الشعوب الأعجمية، واكتفاؤها بمقدرتها الذاتية على التعبير، وعلى التمثل والتوليد، وعلى التخير والانتفاء، في موطنها عينه، وبيئتها نفسها، وبين شقيقاتها اللهجات الفصحى التي تبادلت معها التأثر والتأثير، بينما كانت الساميات يتفرقن عن موطن السامية الأم، ويبتعدون في الوقت