عن طريق العدوى اللغوية بسبب القرب والجوار, وما أكثر صورها، وأشد أخطارها!
ولذلك عَدَّل ابن جني امتناعهم من الأخذ عن أهل المدر -كما أخذوا عن أهل الوبر- بـ"ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل". ولو عُلِمَ أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم، لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر"1.
على أن فرض ابن جني هذا كتب عليه أن يظل فرضًا، لا يزيد على ذلك شيئًا، فما علمنا بأهل مدينة باقين على فصاحتهم، بل رأينا أهل المدن أكثر تعرضًا للحن وفساد اللغة من البدو، ورأينا من البدو الفصحاء أنفسم من ينتقل لسانه إلى لغة فاسدة؛ فينكر العلماء عليه لغته ولا يأخذون بها, ومن ذلك ما يُحْكَى من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خَيْرَةَ، لما سأله فقال: كيف تقول: استأصل الله عِرْقَاتِهِمْ"؟ ففتح أبو خيرة التاء، فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لان جِلْدُكَ2"!
ومذ شاع في البدو اضطراب الألسنة وخبالها, أصبح العلماء يتوجسون خيفة من الذين يدعون الفصاحة، فلا ينخدعون بالبدوي فيحكموا له بالفصاحة إذا آنسوها منه في وضوح نطقه ورشاقة لفظه فقط، وما كان للبيان وحده أن يكون مقياس الفصاحة, إن لم يرتد إلى أصل ينمّ عليه، أو قياس يسوغه, وهل تظن ادعاء الفصاحة البدوية والتباعد عن الضعفة الحضرية، أمرين عسيرين على رجل يقضي معظم وقته في البادية، ولا يأتي الحاضرة إلّا لمامًا؟