يقرر الواقع ويرصده بصدق وأمانة وفن. فالصحافة تقوم على الوقائع المشاهدة، وتنأى عن المبالغات والتهاويل. والفن الصحفي لصيق بالجمهور وبالديمقراطية وبالشعبية، ولذلك فإنه يرتبط بظهور الطبقة الوسطى، ثم الطبقات الشعبية.
وقد رأينا أن المطبعة قد اخترعت في منتصف القرن الخامس عشر، ولم تظهر الصحافة قبل مرور قرنين من الزمان على ظهور المطبعة، بل إن الفن الصحفي، الذي يرتبط بالجماهير ويؤثر فيها ويتأثر بها، لم يظهر إلا في منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأت الصحافة الشعبية في الظهور، وكان لا بد من اتخاذ أسلوب فني جديد، بل وتطوير لغة صحفية جديدة، بما يعززها من صور وعناوين وألوان ورسوم وكاريكاتور. فإذا كان الأدب هو فن الحقيقة، فإن الصحافة هي فن الواقع. وإذا كان الأدب ذاتيا فإن الفن الصحفي موضوعي بالضرورة. وإذا كان الأدب عاما وإنسانيا وعالميا، فإن الفن الصحفي يتصل بجمهور بعينه، وثقافة بعينها، كما أنه يرتبط بزمن محدد لا يستطيع أن يتجاوزه إلى الخلود.
لقد تخيل أحد الأدباء الفرنسيين جوارا لطيفا بين كتاب وجريدة قال فيه الكتاب للجريدة: أنك تنعمين بمائة ألف قارئ، ولكنك لا تمكثين إلا ساعة أو بعض ساعة في يد القارئ، ثم لا تلبثين أن تتعرضي للتمزيق أو التلف. وإذ ذاك يلقى بك في سلة المهملات، أو يتخذ منك الناس غلافا لبعض حاجاتهم، وهكذا تولدين سريعا وتموتين سريعا دون أن تتركي أثرا ما في نفوس الفراء.
فأجابت الجريدة بقولها: نعم أيها الكتاب إنك لتفضلني بطول العمر وبسطة الأجل، ولكن لا تنسى أنك تعيش أعمارا طويلة في عالم الظلام ودنيا النسيان، وعندي أن حياة يوم واحد بالمعنى الصحيح أفضل بإشراقها وحركتها وجلالها من حياة مائة عام تقضيها أنت مجهولا من أكثر الناس، مهملا منهم فوق رفوف يعلوها التراب1.