مولد الإخراج الصحفي:

والواقع أن هذا الأسلوب القديم في الأخراج كان مناسبا تماما لوظيفة الصحافة في مستهل ظهورها. وقد رأينا أن الصحافة بدأت رسمية حكومية، ثم اهتمت بالنشرات الإعلانية والاقتصادية لخدمة التجار، ثم تطورت بعد ذلك فأصبحت أدوات حزبية يستخدمها الساسة كأبواق للدعاية. وهكذا بقيت الصحافة محصورة في بيئات الطبقات الحاكمة من الساسة والتجار والخاصة من المثقفين. ولذلك لم يكن غريبا أن يظل الإخراج الصحفي وثيق الصلة بالكتاب، لا يحفل كثيرا بالعناوين، ولا يهتم بطرق استمالة القارئ واجتذابه. وذلك أن قراء الصحف -وهم قلة من المثقفين وأصحاب المصالح- كانوا يسعون إلى الصحافة سعيا، وكانت هي الأخرى تبدو في مظهر يليق بهذه الطبقات من الوقار والجد والاحتشام.

وفي أواخر القرن الثامن عشر بدأت الثورة الصناعية في أوروبا وأخذت تنتقل إلى شتى بقاع العالم، كما انتشرت بذور الديمقراطية ثم الأفكار الاشتراكية وما تضمنته من احترام للشعوب، واعترفت الدول بواجباتها الاجتماعية وحملت على عاتقها مهمة تثقيف الناس وتعليمهم والمحافظة على صحتهم، والارتفاع بمستواهم، وتحقيق أسباب الرفاهية لهم. فكان لا بد للصحافة أن تتأثر بهذه التيارات الجديدة، وتتوسع في وظيفتها لتخدم هذه الطبقات الناشئة، كما كانت تخدم الارستقراطية والطبقات الوسطى من قبل.

وهكذا ولدت الصحافة الشعبية لكي تساير العصر الجديد، وتتوجه إلى الكتل الشعبية التي تعد بالملايين. فرأينا في أمريكا -مثلا- صحفا جديدة زهيدة الثمن كصحيفة نيويورك صن1 وغيرها من الصحف التي بدأت في الظهور بعد سنة 1830 واهتمت بالأخبار الخفيفة والحوادث الطريفة إلى جانب عنايتها بالنواحي السياسية والتجارية والاقتصادية الجادة. وحدث في بريطانيا نفس الشيء بعد إلغاء الضرائب على الصحف سنة 1855 فظهرت صحيفة ديلي تلجراف2 سنة 1858، وصحيفة ديلي نيوز3 سنة 1868 وصحيفة ديلي كرونكل4 سنة 1877 وغيرها كثير. وكانت كلها صحفا زهيدة الثمن تباع ببنس واحد أو بنس ونصف بنس. وفي فرنسا ظهرت صحيفة "لابريس" في سنة 1836، كما ظهرت صحيفة "لوسيكل" في نفس السنة، وهما من الصحف زهيدة الثمن أيضا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015