البروتسنانت بتحطيم سلطان رجال الدين, وتحرير الفرد من طغيان الكنيسة، منادين بأن الإنسان خليق بعبادة ربه دون وساطه أحد، فلا يليق أن يقف القس بين العبد والرب.
وهكذا كانت بيئة المقال الأولى بيئة حرية وإنسانية وفردية في عصر النهضة، فتحرر الفرد من قيود العصور الوسطى بنظامها الاجتماعي الجامد، وبدأت حضارة جديدة بعد أن حلت التجارة محل الزراعة كأساس للنظام الاجتماعي، وبعد أن قامت مجتمعات جديدة مبنية على جهود الأفراد، وخاصة أثرياء الطبقة الوسطى. وخلاصة القول، أن عصر النهضة يمثل نهاية النظام الإقطاعي، القائم على تقديس السلطة، وتقييد حرية الفرد في الدنيا والدين، وعندما هبت نسائم النهضة في أوروبا استيقظت من سباتها، ورأت ألوان الحياة، وأحست بمتعة الحركة والكشف، دون خوف من الكنيسة، واستمتعت بمباهج الحياة الدنيا، بعد أن كانت الكنيسة لا تسمح للفرد إلا باستعداد للحياة الأخرى، وخرج المفكرون من المنهج اللاهوتي إلى المنهج التجريبي، وانتقل النظام الاجتماعي من جمود الإقطاع الزراعي إلى النشاط التجاري، ومن الحكم الاستبدادي المطلق إلى ظهور الطبقة الوسطى التي كانت لها اليد الطولى في جمع الثروة والاختراع والتأليف والتقدم ثم المطالبة بالاشتراك في الحكم.
وقد رأينا أن مميزات هذه البيئة هي نفسها مميزات فن المقال: فلولا الإيمان بعقل الإنسان، واحترام ذاتيته، وحب الاستطلاع، والرغبة في المعرفة، وحرية البحث ونشاط الفرد -وهي جميعا مميزات عصر النهضة- لما قدر لفن المقال أن يرى النور.