وهكذا نجد أن وظيفة التحقيق الصحفي الحديث هي تقديم صورة مدروسة للواقع، كما فعل الجاحظ بالنسبة لعصره، وإذن فوظيفة التحقيق -التي هي مدعاة وجود فنه الذي لا يعمل في فراغ- تالية للخبر، ومعنى ذلك أنها تضيف إلى الواقع أبعاده، وتسبغ عليه معناه، وتقدم للجماهير مغزاه. فالتحقيق يشرح ويفسر ويعلق، ويبين الأسباب النفسية والعوامل الاجتماعية والخلقية والمادية، وهو في نهاية الأمر يقترح اقتراحات إيجابية فعالة. فليس التحقيق الصحفي مجرد صورة جميلة كتلك التي يصورها الأديب، ولكنه دراسة واعية هادفة. فلا يكفي أن تقدم المعلومات التقريرية السطيحة، وإنما ينبغي البحث عن المسببات ذات المعنى. إن الوظيفة الأولى هي أن يقدم من المعلومات أكثر مما قدمه محرر الأخبار.
فإذا جاز القول أن المخبر الصحفي هو بصرنا الذي نبصر به وسمعنا الذي نسمع به وحواسنا التي نحس بها، وهو يعرف جيدا أن عليه أن ينقل إلينا جميع ما رأى وما سمع دون أن يقحم فيها شيئا من ذاتيته أو تأملاته أو إيحاءاته، فإن فن التحقيق الصحفي يقوم على التفسير الاجتماعي للأحداث، والتفسير النفسي للأشخاص الذين اشتركوا في هذه الأحداث. غير أن ذلك لا يعني أن التحقيق فن ذاتي. فليس من وظيفة المحقق الصحفي أن يعرض رأيه الذاتي أو وجهة نظره الخاصة، بل إنه على العكس من ذلك، مطالب بالبحث والدراسة وجمع الآراء والاتجاهات على كافة أنواعها. إنه يلقي الضوء على الأحداث والأشخاص فيزيدنا علما، ويثري ثقافتنا، ويبين الأبعاد العميقة للخبر. فالأخبار تنتشر على المساحة السطحية، ولكن التحقيقات تتعمق في الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية جميعا.
ويظن البعض أن التحقيق الصحفي طرز أدبي يستطيع كاتبه أن يستخدم فيه الأسلوب الإنشائي، والأسلوب الذاتي. ولكن الحقيقة أن هذا الفن الصحفي لا بد وأن تتوفر فيه سائر الصفات الفنية الصحفية، كالحرص على استخدام الألفاظ المألوفة، وتجنب الألفاظ العلمية والاصطلاحات النادرة، مع الحذر من الانزلاق إلى العامية المبتذلة، واللفظ الدقيق، والعبارة السليمة الموجزة.