قلت: ففي هذا الكلام قد جعل العلم ثلاثة أنواع: أحدها: هو الذي يعرف بالعقل، والثاني: المعرفة التي لا تحصل إلا بالسمع.
والثالث: ما لا سبيل إلى معرفته لا بعقل ولا بسمع.
فالأول: المعرفة المطلقة المجملة بأن هذه المحدثات التي يعجز عنها الخلق لا بد لها من صانع.
ولكن هذه المعرفة لا تفيد معرفة عينه ولا أسمائه، فإن المحدثات إنما تدل على فاعل ما مطلق من حيث الجملة.
وكذلك سائر ما يذكر من البراهين القياسية، فإنما تدل على أمر مطلق كلي، إذ كان البرهان المنطقي العقلي لابد فيه من قضية كلية، والنتيجة موقوفة على جميع المقدمات، فإذا كان المدلول عليه لم تعرف عينه قبل الاستدلال، لم يدل هذا الدليل إلى على أمر مطلق كلي.
وإيضاح ذلك أنه إذا استدل بحدوث المحدثات على أنه له محدثاً، وبإمكان الممكنات على أن هناك واجبا، فإنه لم يعرف إلا وجود محدث واجب بنفسه، وهذا معنى كلي مطلق لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فلا يكون في ذلك معرفة عينه، ولو وصف هذا بصفات مطلقة لم يخرجه ذلك عن أن يكون مطلقاً كلياً.
ثم إنه ضل من ضل من الجهمية نفاة الصفات، من المتفلسفة والمعتزلة والمتصوفة، حيث أثبتوا وجوداً واجباً قديماً، ثم وصفوه بصفات سلبية توجب امتناع تعينه، وأنه لا يكون إلا مطلقاً، وقد علم أن ما لا يكون مطلقاً كلياً، لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان، فيكون ما أثبتوه لا وجود له في الخارج.
ومن المعلوم الفرق بين كون الدليل لم يدل على عينه وبين نفي تعينه،