أحدهما: أنّ العقل أنفَسُ ما في الإِنسان. والقلب أوثقُ محلِّ فيه. ولذلك جُعِل في الصدر، لما دونه من الوقايات. فاقتضت الحكمةُ جعلَ الأنفسِ في المكان الأوثقِ، كما تُوضع الجواهرُ النفسية في الأماكن الحريزة. وعورِض هذا بأنّ الرأس أوثقُ وأحرزُ، لما دونه مِن عظمِ القحف ونحوِه من الجواهر الصلبة.
الثاني: أنّ القلب أوّل ما يتكوّن من الإّنسان. فكان أولى بمحلّيّة العقل؛ لأنّ أوّليّة تكوين القلب دليلُ شرفِه والعناية الربّانيّة به. ففي جَعْل العقل فيه جَمعٌ بين شريفين نفيسين في محل واحدٍ. فيكون ذكل أعون على صلاح البدن، كاجتماع السلطان والوزير في المدينة. وأُجيبَ عنه بأنا لا نُسلِّم أنّ القلب أوّلُ متكوّنٍ من الإِنسان. بل للحكماء في ذلك ثلاثةُ أقوالٍ. أحدها ما ذكرتم. الثاني أنّه الدماغ؛ لأنّه مَجمعُ الحواسِّ الشريفة السابقِ ذكرُها. الثالث أنّه العُصعص؛ وهو موافقٌ لصحيح السنّة، وهو قولُه عليه السلام: "كلّ جسد ابن آدم يَبلى، إِلاّ عَجْب الذَنَبِ، ومنه تُبتدأ إِعادتُه".
فيكون أوّلُ القلب أوّل مكوَّنٍ منه؛ لكن لا يلزم من ذلك كونُه أشرفَ ما في الإِنسان؛ إِذ ربما سبقت أواخرُ الأشياء أوائلها شرفًا وفضلًا. وفي المعنى قولُ الشاعر:
لا تَقعُدن عن المكارم والعُلى ... فلربما سبق الأخيرُ الأوّلا
وقولُ الآخر:
افخرْ بآخِرِ مَن بُليتَ بحبّهِ ... لا فخر في حبّ الحبيب الأوّلِ
أوَليس قد ساد النبيُّ محمدٌ ... كل الأنام وكان آخِرَ مرسَلِ
سَلَّمنا أنّ أوّليّته تدلّ على شرفه، لكن لا نُسَلِّم أنّ ذلك يقتضي كونَ العقل فيه.
قولهم "ذلك أعونُ على صلاح البدن"، معارَضٌ بعكسه؛ وهو أنهما إِذا افتَرقا، فكان أحدهما في الرأس والآخر في البدن، كان أجدو بالصلاح. كما تُجعَل الشجعانُ