فقد أَوجدها، مع قدرته على الاستمرار على نفيها. وإن كان الثالث، فالكلام في كلّ واحدٍ من القسمين كالكلام على الجميع؛ إِذ قد كان يمكنه أن لا يوجد مِن العالم إِلاّ مَن له في الوجود مصلحةٌ.
فإّن قيل: "لعلّه علم أنّه ليس في وجوده قبل وقته المعيّن مصلحةٌ، فأَخَّره إِلى ذلك الوقت نَظَرًا لهم في ذلك مصلحةً، فلم يُرِد إِيصالَها إِليهم لكونه لا يراعي مصالحهم التزامًا". فإِن قيل "لا يليق ذلك بكرَمه"، قلنا: "هذا رجوعٌ إِلى التحسين والتقبيح؛ ونزاعنا فيه".
ثمّ نقول: هب أنّه أّخَّر خلقَ العالم إِلى وقته المعيّن لمصلحتهم. فبَعد خلقِه، اشتمل العالمُ على مفاسد، أم لا؟ إِن اشتمل على مفاسد، فإِمّا أن يكون سبحانه عالمًا بها قبل خلقها؛ فقد كان يجب على قاعدتكم أن لا يخلقها رعايةً للمصلحة. أو لا يكون عالمًا بها؛ لكنّه ليس مذهبًا لكم. لأنّا اتّفقنا على أنّه عالمٌ بالأشياء في الأزل؛ وإِنما اختلفنا في أنّه عالمٌ لذاته، أو بمعنًى زائدٍ هو علمٌ؛ وهو أمرٌ وراء ما نحن فيه. وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه: "إِذا سَلَّم القدريّة العلمَ، خُصِموا في جميع هذه المسائل". وبتقدير أنّه إِنما يعلم الأشياء بعد وقوعها، على رأي بعضهم، وإِن كان فاسدًا، لكنّه قادرٌ على رفعها بعد وجودها وقطعِ استدامتها؛ ولم يفعل.
وأيضًا، فمن مصلحة الكفّار والعصاة أن كان يعصمهم مِن أسباب العذاب. إِذ هو قادرٌ على ذلك. وحيث لم يعصمهم، فهلاّ عفا عنهم! إِذ العفو أصلح لهم. وحيث عاقبهم، فلِمَ خلَّدهم في النار؟ وإخراجهم منها، ولو بعد حينٍ، أصلح لهم. وقد اضطرّ التزامُ رعاية الأصلح بعضَ المعتزلة حتى التزموا أنّ خلودَ الكفّار في النار أصلحُ لهم.
وأمّا الثاني، وهو أنّ بطلان رعاية المصالح يلزم منه بطلانُ التحسين والتقبيح، فلأنّا قد بيّنّا أنّ معنى التحسين والتقبيح هو جزم العقل بوجوب ارتباط الأحكام بالمصالح والمفاسد. وحيث بطلت رعايةُ الأصلح أو المصالح، لم يجب في العقل أن يربط اللهُ أحكامَه بالمصالح والمفاسد. بل يجوز ذلك ونقيضه؛ وهو المطلوب. وحيث كثُر من الله