واعلم أني كنتُ ملكتُ ببغداد كتابًا نظيفًا من تصنيف القاضي الشريف ابن أبي موسى الهاشمىّ، يَشتمل على آيات القدر مِن الطرَفين، على ترتيب السور، والكلامِ عليها بما عَلِمه. واتّفق أنّ الكتاب فُقِد، ولم أَقضِ منه الوطرَ؛ فبقى ذلك في نفسي. فلمّا أَلَّفتُ هذا الكتابَ، رأيتُ استقرياءَ أي القدر مِن القرآن على نهجِ ذلك الكتاب، ثمّ إِتباعَها بالأخبار الصحيحة في الباب؛ ليكون الكتاب جامعًا لمباحث المسألة المعقولة، وحججِها المنقولة. فأقول، وبالله العصمة والتوفيق:
قوله تعالى، {إياك نعبد وإياك نستعين}. أي نَستعينُك على عِبادتك. وهو معنى قوله: "لا حول ولا قوّة إِلاّ بالله"؛ أي لا قّوة لنا على طاعتك إِلاّ بتوفيقك. ولو كان العبد مستقِلًا بخلقِ فعلِه، لم يكن له حاجةٌ إِلى الاستعانة بربّه.
فإِن قيل: "قد ذكرنا في الرسالة المذكورة أنّ عَملَ الخير لا يصحّ إِلاّ بمعونة الله؛ لكن لا يَلزم مِن ذلك أنّ الله هو الخالق للفعلِ"، قلنا: قد سبق أنّ لا نعني "بخلق الله للطاعات" إِلاّ خلقَ دواعيها وإِزالة موانعِ وقوعها، حتى تَحدُث عقيب ذلك. وهذا بعنيه موجودٌ في المعاصي. فإِنّ الله سبحانه هو يخلق دواعيها، باتّفاقٍ- وإِلاّ لزم التسلسلُ- ويُهيِّء أسبابَها، كالشهوات المستميلة، والنفوس المائلة، وصرفِ العوائقِ دونها. فتَحدُث المعاصي عقيب ذلك. فإِذا سَلَّمتم هذا، فقد حَصَل الاتّفاقُ في المعنى، وبقي النزاعُ في اللفظ. فأنتم تُسمُّون ذلك "إِعانةً"، ونحن نُسمِّيه "خلقًا". وإِن لم تُسَلِّموا ما ذكرناه مِن المقدّمات، فالدليل عليه واضحٌ؛ وقد سبق.