أنْ لا تَعَلُّق لمشيئته بضلال الضالّين. لكنّ ذلك يُناقِض قوله: {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على ضراط مستقيم}؛ والتناقُض في القرآن محالٌ باتفاقٍ. فَثَبَت أنّ تكذيبهم لأجلِ أمرٍ وراء ذلك؛ وهو أنهم قالوا ذلك على جهةِ التهَكّم، أو العنَت، أو المدافَعَةِ. كأنهم قالوا: "أنت، يا محمّدٌ، تَزعُم أن ربَّك هو الذي يُضِلّ مَن يشاء ويَهدى مَن يشاء؛ فإِذن نحن بمشيئته أَشرَكنا؛ ولو شاء لَما أَشركنا. وإِذا كان إِشراكُنا بمشيئته وإِرادته، فأنت في دعائنا إِلى غيره متكلَّفٌ؛ لأنّ الله يَرضَى منّا بما يوافِق إِرادته". فدَخَلَت عليهم شبهةُ القدريّة في أنّ الطاعة موافَقة الإِرادة؛ فأَكذَبهم اللهُ سبحانه في إِخراجهم هذا الكلام في صورة التفويض والتسليم واعتقاد نفوذِ مشيئة الله وإِرادته فيهم، وإِنما هم مجادِلون معانِدون، يُلزِمونك على مقتضَى إِخبارك ما يَظُنون به إِفحامَك. وهذا كما في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه}؛ معناه أنهم لَمَّا أُمِروا بالصدقة، قالوا للمؤمنين: "أنتم تُزعمون أنّ الله هو الرازّق، وأنّ مَن شاء اللهُ أطعَمَه؛ ومَن لا، فلا فأىّ حاجةٍ إِلى أمرِنا بالإِنفاق"، إِلزامًا لهم على ما يَعتَقِدون. فلا شكّ أنّ الله لو شاء، ما أشركوا. ولكن أَكذّبهم في زعمِهم التفويضَ إِليه، كما أكذَبهم حين قالوا: "إِنّك رسول الله". ولم يَكذُبهم في هذا القول؛ لأنّه حقٌّ؛ وإِنما أكذبهم في أنهم يَعتقِدون صحّة ذلك القول؛ فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وباعتبار تَصرُّفه التكليفىّ، ومخالَفتِهم خطابَه الأمريّ، فإِنّه أَمرَهم بالتوحيد، فخالَفوه وأشرَكوا. قال بعض المفسَِرين: "وقد يُذَمُّ الإِنسانُ على العنت والعناد، وإِن كان حقًّا؛ كقولهم، "أنزِلْ علينا كتابًا"، و "فَجِّر لنا ينبوعًا"، ونحوه مّما حُكِي عنهم في سورة بني إِسرائيل وغيرها، ذمَّهم اللهُ عليه، لا لكونه سؤالًا معجِزًا على جهة الاسترشاد، بل لكونه سؤالَ تعجيزٍ وعنادٍ. ولَمّضا قالت الخوارجُ لعليِّ: "لا حُكم إِلاّ لله"، قال: "كلمة حقِّ