وبيانه أنّ الأفعال إِمّا اختياريّةٌ محضةٌ، وهي الأفعال المضافة إِلى الله سبحانه؛ أو قسريّةٌ محضةٌ، وهي الأفعال المضافة إِلى الجمادات، كحركة الحجرِ الذي يُدَحرَج على الأرض، أو يُدَهدَه من رأسِ الجبل، وكحركات الأفلاك بكواكبها عندنا، ونحو ذلك فهذان طرفان.
والأفعال المضافة إِلى الآدميّ ونحوه تُشبه القسمَ الأوّل في الاختيار المحضر من جهة المشاهَدةِ والحسِّ. فإِنّا نشاهدِ الإِنسانَ يمشي ويأكل ويَضرب ويفعل أفعالَه دائرةً مع اختياره وجودًا وعدمًا.
وتُشبِه القسمَ الثاني في القسرِ والجبرِ من جهة الدليل العقليّ. وتلخيصُه أنّا نَرى الإَنسانَ يَفعل أفعالَا هي جائزة الوجودِ وكلّ جائزٍ، فلا يوجَد إِلاّ لمرجِّحٍ. وذلك المرجَِح إِن كان من العبد، فهو جائزٌ أيضًا، يحتاج إِلى مرجِّحٍ. فإِن توقَّف المرجّحُ الثاني على المرجِّح الأوّل، لَزم الدورُ. وإِن لم يتوقَّف عليه، فإِن استَلزَم مرجِّحاتٍ لا تَتناهى، لزم التسلسلُ. وهما محالان. وإِن وَقَف عند مرجِّحٍ لا يَتَوقَّف على غيره، فهو من الله تعالى، ولابدّ. وعند وجودِ ذلك المرجِّح، إِمّا أن لا يجب الفعلُ، فَيبقى على جاوزه؛ ويَلزَم منه محالان. أحدهما: أنّ وجود المرجَِح الأوّل كععدمه. الثاني: توقُّف هذا الجائز على مرجَِحٍ، ويعود الكلامُ، فيَتَسلسل. أو يجب الفعلُ عقيب المرجَِحِ؛ فيكون الفعلُ مضافًا إِلى الله سبحانه بواسطة المرجِّح. ولا فرق في صحّة إِضافة الفعل إِلى الفاعل بين أن يكون بواسطةٍ، أو بغير واسطةٍ.
وقد سَّم أبو الحسين البصريّ أنّ فِعل العبدِ متوقفٌ على الداعي من الله سبحانه، وأنّ الفعل عقيب خلقِ الداعي واجبٌ. وهذا تسليمٌ للمدَّعي، وتركُ الاعتزالِ بالكلّيّة. ولهذا، أتُّهِم أنّه في نُصرتِه للاعتزال، بعد تسليم هاتين المقدّمتين، على تَقيةٍ من المعتزلة.
ومّما يَازم جميع المعتزلة أنّا قد بيّنّا أنّ ما تَعلَّق علمُ الله بأنّه لا يوجَد يَخرُج عن المقدوريّة. وإِيمان مَن مات كافرًا كذلك؛ مع أنّه مكلفٌ به؛ فهو تكليفُ محالٍ. وإِذا كان تكليفُ المحالِ في جانب ما عُلِم امنناعُ وجودِه، جاز في طرَف ما عُلِم وجوبُ وجوده، وهي المعصية التي يخلقها، ويَنهى عنها. وأيضًا، الفعل إِمّا أن يَتعلَّق علمُ الله بوجوده، فيجب؛ أو بعدمه، فيَمتنِع. والتكليف بهما محالٌ؛ ويعود الكلامُ.