فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور)) قال الحافظ: يشعر بأنه اهتمَّ بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئًا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور وشهادة الزور أسهل وقوعًا على الناس والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأمَّا الزور فالحوامل عليه كثيرة؛ كالعداوة والحسد وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه.

قوله: "فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت"؛ أي: شفقةً عليه وكراهيةً لما يزعجه، وفيه تحريم شهادة الزور، وفي معناها كلُّ ما كان زورًا من تعاطي المرء ما ليس له أهلاً، قال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصَّل بها إلى الباطل من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررًا منها ولا أكثر فسادًا بعد الشرك بالله، اهـ.

وفيه التحريض على مجانبة كبائر الذنوب ليحصل تكفير الصغائر بذلك، كما وعد الله - عزَّ وجلَّ - في قوله - تعالى -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء: 31] ، وفي الحديث انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويُؤخَذ منه ثبوت الصغائر؛ لأن الكبيرة بالنسبة إليها أكبر منها، قال الغزالي: إنكار الفرق بين الصغيرة والكبير لا يليق بالفقيه، اهـ.

وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) ؛ متفق عليه.

وعن ابن عباس: أنه قيل له: الكبائر سبع، قال: هي إلى السبعين أقرب، قال القرطبي: كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب الله أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدَّة العقاب أو علَّق عليه الحد أو شدَّد النكير عليه فهو كبير، وقال الحليمي ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنتقل الصغيرة كبيرة بقرينةٍ تضمُّ إليها وتنقلب الكبيرة فاحشة كذلك، والله اعلم.

* * *

طور بواسطة نورين ميديا © 2015