الرفاهية والسعة، ممن كانوا في كل زمان ينشطون إلى سماع الأغاني، ويبرون الرجال والنساء من أرباب الموسيقى والغناء، ويغالون بابتياع الجواري اللائي حذقن الغناء، وبرعن في الموسيقى وشدون شيئاً من الأدب.
وكانت تغلو في العادة قيمة مثل هذه الطبقة من الجواري. والسواذج منهن أي غير المثقفات دون من عُني أولياؤهن بثقافتهن في الرتبة والقيمة مهما بلغ من جمالهن، والموسيقى والشعر في مقدمة ما كان يطلب منهن. وذكر المسعودي أن كثيراً من الجواري اشتهرن بالغناء بالمدينة، وكان يقصدهن بعض الناس من بغداد، وربما وافى الواحدة وجوه أهل المدينة من قريش والأنصار وغيرهما، ومنهن القارئة
القوّالة، ولم تكن محبة القوم إذا ذاك لريبة ولا فاحشة. وكان لبعض الموسيقيين والموسيقيات والمغنين من أرباب النباهة والفضل، يد في إصلاح بعض الأحوال وتخفيف النوازل عند العظماء، ولطالما ارتجلوا ألحاناً وأبياتاً ظاهرها طرب وغرام وسلوى، وباطنها وعظ وعبرة وتعريض، ذلك لأن الموسيقى عندهم كانت على الأغلب مرافقة للشعر والأدب، وكم من شاعر تدفقت الحكمة على قلبه، وجاش بها صدره، فهذّب نفساً بل نفوساً بأبيات يقولها.
جاء أبو النصر الفارابي الفيلسوف إلى الشام على عهد سيف الدولة بن حمدان فأدهشه ومن عنده من الموسيقيين على إتقانهم لها، وأقام في دمشق ومات فيها، قال ابن أبي أُصيبعة: إن الفارابي المعلم الثاني وصل في علم صناعة الموسيقى وعملها إلى غاياتها، وأتقنها إتقاناً لا مزيد عليه، وإنه صنع آلة غريبة يسمع عنها ألحاناً بديعة، يحرّك بها الانفعالات، ويحكى أن القانون الذي كان يضرب عليه للطرب هو من وضعه، وأنه كان أول من ركّب هذه الآلة تركيبها المعهود اليوم. وقد ذكر المؤرخون من تنافس سيف الدولة بن حمدان مع الوزير المهلبي للاستئثار بمغنية أديبة مشهورة اسمها الجيداءُ ما يدلّ على ولوع القوم بالموسيقى، وكان لجيداءُ في مجالس سيف الدولة من ارتجال الألحان والأدب البارع ما اشتهر أمره، وفي عصره اشتهرت في إنطاكية المغنية المشهورة بنت يُحنا.
ولم تبرح الشام تخرج من رجال الموسيقى والغناء رجالاً كانوا بهجة