والأدبية ثم معالجة موضوع واحد: إذا كانت القرون الوسطى قرون التعميم في التعليم، فإن هذا العصر عصر التخصص. فقد اتسعت معارف البشر النظرية والعملية فدعت الحاجة إلى أن يقسموها بحسب استعدادهم وحاجاتهم إلى أقسام ينقطع إليها أفراد. فالأصول من المعارف هي المعلومات العامة وتفرعاتها هي الإخصائيات. كان بادئ بدء كل شيء مفهوماً في الفلسفة، فكانت لفظة عام عند الأمم الجاهلة تتناول جميع العلوم، وتنقسم إلى قسمين: المحسوسات والمعقولات، ودعيتا علوم الطبيعة وعلوم ما وراء الطبيعة. أما الصنائع اليدوية فلم تكن منظمة تنظيماً معقولاً ولا جارية على طريقة معقولة، وكان أرباب الأفكار يحتقرونها فلا يمارسها إلا الصعاليك يخلفون في تعلمها آباءهم، بدون وقوف على القوانين الميكانيكية أو الطبيعية التي كان يعملون بها على الدوام.
ثم حسنت الحال بالتدريج ودخلت الأعمال في طور نظام، وانتظمت العلوم الرئيسة لا سيما الآداب والفنون وعلوم النظر والعلوم العملية أي التجارة والصناعة والحرف، ونشا الإخصاء في كل فرع من فروع هذه الطبقات. فالطبيب مضطر إلى تعلم أمور كثيرة، ولا يخصي في تعاطي فرع واحد إلا في المدن، أما في القرى فيمارس كل فرع من فروع الأمراض الباطنية والخارجية. وهكذا الحال في الأعمال التجارية والصناعية فإن كل حرفة أو مهنة تنقسم إلى أقسام.
وقد دخل كل علم اليوم في دائرة الإخصاء حتى ما يلزم الطاهي والبائع من المعارف، فأصبح من الضروري بالنظر لتكاثر أعمال البشر، أن يزيد أبداً الإخصاء في كل علم وشأن. وإذا نظرت إلى إخصاء من حيث العلم فإنه دليل الكفاءة وبدونه لا يكون عالم، فإن المبادئ الأولية من جميع العلوم هي ولا شك نافعة لكل الناس، ومتى حاز المرء قسطاً من هذه العلوم ورأى أن يتبحر فيها يجب عليه تعيين الموضوع الذي سينصرف إليه وبدون ذلك يتقدم المرء في عمله تقدماً بطيئاً، ويخلط ويبقى متوسطاً وإلى ضعف. والإخصاء ضروري أيضاً في العلم العملي أي في المعامل والأعمال اليدوية وذلك للسرعة في الإنتاج وبهذا يرى أرباب معامل الإبر والخياطة في لندرا أن في تقسيم الأعمال اقتصاداً كبيراً.