ولما أنفذ أبو بكر الأمراء إلى الشام كان فيما أوصى به يزيد بن أبي سفيان وهو مشيع له: إذا قدمت على أهل عملك فعدهم الخير وما بعده، وإذا وعدت فأنجز، ولا تكثر عليهم الكلام، فإن بعضه ينسي بعضاً، وأصلح نفسك يصلح الناس لك، وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرم مثواهم، فإنه أول خيرك إليهم، وأقلل حبسهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت الذي تلي كلامهم، ولا تجعل سرَّك مع علانيتك فَيْمرجَ أمرك، وإذا استشرت
فاصدق الخَبر تصدق لك المشورة، ولا تكتم المستشار فتؤتى من قِبلَ نفسك، وإذا بلغتك عن العدو عورة فاكتمها حتى توافيها، واستر في عسكرك الأخبار، وأذكِ حراسك، وأكثر مفاجأتهم في ليلك ونهارك، واصدق اللقاء إذا لقيت، ولا تجبن فيجبنَ من سواك.
وقد شيع أبو بكر يزيد بن أبي سفيان راجلاً إلى ما بعد ربض المدينة فقال له يزيد: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: ما أنت بنازل وما أنا براكب. إني احتسب خطاي هذه في سبيل الله ثم قال: إنك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له يعني الرهبان. وستجد قوماً فحصوا عن أوساط رؤوسهم فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. ثم قال: إني موصيك بعشر: لا تغدر، ولا تُمَثّل، ولا تقتل هرماً ولا امرأة ولا وليداً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا ما أكلتم، ولا تُحرقن نخلاً، ولا تخربن عامراً، ولا تغُلّ ولا تجبن.
وصل الجيش العربي إلى مشارف الشام فنزل في آبل وزيزاء والقسطل، وكان جيش الروم من دون زيزاء بثلث. وطلع ماهان قائد الروم وقدم قدامه الشمامسة والرهبان والقسيسين يحضون جيش الروم على القتال. وكان هرقل وهو من عظام القواد أدرك الخطر ورأى لما أتاه الخبر بقرب جيش العرب أن لا يقاتلهم وأن يصالحهم. وقال لقومه: فو الله لأن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام وتأخذوا نصفاً وتقرَّ بكم جبال الروم خير لكم من