أيدي الفرنسيين فكان كل عربي يمر بالأرمن لابساً ثياب الجيش التركي المنحل يهيج منظره العسكري عاطفة النقمة في قلوب الأرمن إذ يتذكرون فظائع الأتراك بهم وبأهلهم. ولا يعذرونه بأنه عربي، جاهلين الفرق بين هذا وبين التركي فيعاملونه بخشونة. وكنا في حلب نستقبل كل يوم عشرات ومئات من أولئك العرب مسرّحين وهم مهشمو الوجوه مجروحون مضروبون بأيدي الأرمن فكان هؤلاء الجنود ينتشرون في حلب وينشرون بين أهلها أخبار تعدي الأرمن عليهم انتقاماً منهم لما فعل الأتراك بهم، وكان كثير من هؤلاء الجند من الحلبيين المسلمين، هذه أول مقدمة لحادثة حلب.
السبب الثاني كان الإنكليز عند دخولهم حلب قد أخذوا الأرمن اللاجئين إليها ووضعوهم في أماكن مخصوصة عُنوا فيها بإعاشتهم وترتيب أمورهم وتحسين حالتهم، فرأى الأرمن من الإنكليز حماة يدفعون عنهم ذلك الشر المستطير والضيم العظيم، فصاروا كمن انتقل فجأة من الظلمة الحالكة إلى نور كهرباء ساطعة، وتحولوا حالاً إلى جواسيس متطوعين للإنكليز ينقلون إليهم الأخبار المتنوعة، وجرأهم هذا الانقلاب في حالتهم من تعاسة وشقاء إلى حرية وإكرام فنشأت فيهم غطرسة غير معهودة لدى الحلبيين فقابلها هؤلاء بالاشمئزاز الطبيعي فازدادت نارها اضطراماً، وصارت الخشونة في الحديث على رأس كل لسان أرمني تقريباً، فتكاثرت الحوادث البسيطة في جميع أنحاء الشهباء.
السبب الثالث الجنيه المصري، فإن الإنكليز طرحوه في حلب عند قدومهم وقد تناقصت في ذلك الحين قيمته الحقيقية عن قيمته الرسمية، وكان الأرمن يتناولون
الجنيه من دوائر الإعاشة الإنكليزية ويذهبون لصرفه عند الفوّالين وباعة الحمّص مثلاً، فكان الأرمني يأكل صحن فول بغرشين ثم يبرز للفوال ورقة بليرة ويطلب منه حسم الغرشين وإعطاءه الباقي من المال الحجر، وكانت قيمة الورقة ستين غرشاً، فكان المسكين يضطر إما إلى خسارة كل موجودات محله وهي لا تزيد عن أربعين غرشاً وإما إلى مواجهة شرطي كان غالباً يعطف على خصمه الأرمني تنفيذاً للقانون، وتعددت هذه الحوادث وتنوعت حتى امتلأت منها القلوب وغلت من حرارتها الخواطر.