وفي ذهاب السلطان إلى مصر وعودته إلى الشام قاسى الشاميون من اعتداء جنده كثيراً، فقطع الأجناد الأشجار ورعوا الزروع وأخرجوا أهلها من بيوتهم في كل
بلد واحتلوا وتعدوا على أعراض الناس، فتضرر الناس بذلك وعرفوا أنهم أخطئوا في نفض أيديهم من أيدي الشراكسة لأول ما بدا لهم من قوة العثمانيين، وخاب رجاؤهم في أن تغيير الدول قد يكون منه رحمة، خابت الظنون لما جاء دور العمليات وغلط في الحساب من كانوا يتوقعون من الدولة الجديدة كل الخير وأن الحظ يحظهم متى خفقت أعلامها عليهم، وكانوا يرقبون طلعة العثمانيين منذ سنين رقبة هلال العيد، للاستمتاع بحكمهم الرشيد وعهدهم السعيد، ولطالما ساء فأل من يهتمون للأمر الجديد، ويفتحون له قلوبهم وصدورهم بادئ الرأي مع علمهم أحياناً بتهورهم، وأي فشل أعظم لمن كانوا يطلعون الدولة الخالفة على عورات الدولة السالفة، حباً بأن يكون لهم شيء من الراحة والهناء إذا تغيرت الدولة.
صرف السلطان سليم سنة وشهراً في فتح الشام ومصر وهلك بعد مغادرته القطرين بنحو ثلاث سنين 926 وقد بالغ مؤرخو الترك في وصف فضائله خصوصاً من كتبوا بلسان الرسميات. وكثيراً ما يكون في الروايات الرسمية نظر كبير إذا وضعت على محك النقد التاريخي. وكان مؤرخو العرب أقرب إلى الثقة في وصف هذا الفاتح الذي هو بلا أمراء نابغة العثمانيين أو من نوابغهم بعد محمد الفاتح. ترجمه النجم الغزي في الكواكب السائرة بقوله: كان السلطان سليم سلطاناً قهاراً، وملكاً جباراً، قوي البطش، كثير السفك، شديد التوجه إلى أهل النجدة والبأس، عظيم التجسس عن أخبار الملوك والناس، وربما غير لباسه وتجسس ليلاً ونهاراً، وكان شديد اليقظة والتحفظ، يحب مطالعة التواريخ وأخبار الملوك، وله نظم بالفارسية والرومية التركية والعربية.
ومما قال ابن إياس فيه: إنه لم يجلس بقلعة الجبل بمصر على سرير الملك جلوساً عاماً، ولا رآه أحد، ولا أنصف مظلوماً من ظالم، بل كان مشغوفاً