ولما أصيب نور الدين يوم البقيعة استنجد أصحاب الموصل وماردين والحصن وذكر لهم ما تم عليه فأنجدوه بجيوش ضخمة وكانت سنة 559 كلها فتوحاً نافعة كان فيها مبدأ سعادة نور الدين، فتح فيها حارم وقتل بالقرب منها عشرة آلاف وأسر ألوفاً ومن جملتهم صاحب إنطاكية والقومس صاحب طرابلس والدوك مقدم الروم وكثر الأسرى من الفرنج حتى بيع الواحد بدينار ثم فاداهم نور الدين. وكان قد استفتى الفقهاء فقال قوم: يقتل الجميع وقال آخرون: يفادى بهم. فمال نور الدين إلى الفداء فأخذ منهم ستمائة ألف دينار معجلاً وخيلاً وسلاحاً وغير ذلك. فكان نور الدين يحلف بالله أن جميع ما بناه من المدارس والربط والمارستانات وغيرها من هذه المفاداة وجميع ما وقفه منها وليس فيها من بيت المال درهم واحد.
قال المؤرخون: وكان الصليبيون جاءوا لنجدة حارم في حدهم وحديدهم وملوكهم
وفرسانهم وقسوسهم ورهبانهم وكان الصليبيون استولوا على حارم سنة 491 وزادوا في تحصينها وجعلوها ملجأ لهم إذا شنوا الغارات فحاصرها نور الدين سنة 551 وسنة 557 ثم فتحها هذه السنة، وكانت قلعة حصينة في نحور المسلمين. وفي سنة 559 فتح نور الدين قلعة بانياس بعد عودته من حارم وكان الفرنج والأرمن على حارم ثلاثين ألفاً ووقع بيمند في أسره وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد.
فتح نور الدين تلك الفتوح ورايته منصورة وسطوته محذورة، استصفى من ضعاف أمراء المسلمين ما اتصل إليهم بالإرث من الأقاليم فنزلوا له عنها طوعاً أو كرهاً، واقتصد في إهراق دماء المسلمين وأسرف في إزهاق أرواح الصليبيين، واسترجع من الأعداء مدناً وحصوناً مهمة جعلت إماراتهم الثلاث الباقية تهتز أعصابها، وتخاف بأس حملاته وغزواته، ولم يخامرهم شك وهم يستنشئون أخباره أنهم ابتلوا برجل وحّد قوى الشام وجمع القلوب ووجّهها إلى قتالهم واسترجاع القطر منهم.
ولما تمّ له هذا وقع خلاف في مصر بين شاور وضرغام من وزرائها 559