بأمرها، وتسير معها إلى الغاية التي هي تنشدها من رد عادية الصليبيين. وكان في حذقه بسياسته كما قيل يستخدم الفضائل والرذائل في الناس كما تستخدم الطبيعة فضول الأغذية فتجعلها في أشياء تنتفع بها. ولقد أوقف طغتكين سير الصليبيين عن التوغل في أحشاء المملكة، وقصر حكمهم على الساحل وعلى إنطاكية والقدس وطبرية، ولولا قيامه ذاك القيام المحمود لفتح الصليبيون دمشق وحلب، وكثيراً ما كانوا يغزون ربضهما وضاحيتهما، واكتفى المسلمون والفرنج بإضعاف قوى بعضهم بعضاً تارة، وعقد المهادنات طوراً، ولم تسفّ دمشق إلى دفع الغرامات للصليبيين على عهد طغتكين معتبرة نفسها الأم والعاصمة أكثر من غيرها من حواضر الشام، ولو أخذت دمشق لاستصفي الشام كله ولا نقطع ما بين مصر وهذا القطر من الاتصال، وصعب بعد ذلك إخراج الفرنج منه، فبقاء الرابطة مع مصر من البر ومن البحر إلى أن سقطت صور، حصر الفرنج في بقعة معينة لا تتعدى الطريق إلى بيت المقدس عن طريق الساحل.
ولو كان جميع أمراء الشام على مثل سيرة طغتكين، لخلفت وطأة الفرنج كثيراً في هذه الثلاثين سنة، وماذا يرجى من خير الأمراء إذا كان صاحب بعلبك يطلعهم على عورات المسلمين، وصاحب أفامية يقطع السابلة وابنه يحث الفرنج على قصد بلد أبيه، وصاحب حمص يشارك قطاع الطريق وكذلك ابنه خير خان، وبأمثال هذه الطبقة لا تخلص الرعية ويتعذر سوق القوم إلى طريق الخير، وهم لا يزالون مختلفين لأنهم يرون من عملهم أن يستبعدوا من صاروا إليهم وينعموا ولو
بإهلاكهم، لا أن يحافظوا على ملك ويدافعوا عن ذمار. ولذلك كان ظهير الدين بسياسته الحسنة مع ملوك الأطراف المرجع في الشام، أطلق الخليفة العباسي يده فيه منذ سنة 509 حرباً وخراجاً، وجعل ارتفاعه على إيثاره واختياره، لما بان من حسن بلائه وجميل سيرته في رعيته. على حين بدلت حلب عدة ملوك خلال دوره، وكان بعضهم يتنازعون ويتفاشلون ويتقاتلون.
كانت أخبار المسلمين تصل إلى الفرنج بسرعة، والغالب أن هؤلاء برعوا في التقاط الأخبار أكثر من الذين نزلوا عليهم، فكان الفرنج عندما