وأظهر أن القراءة مما لا تسمح له به أوقاته الثمينة، وكان يدفن أمواله في الأرض حتى لا يظهر عليها الناس إذا وضعت في المصرف، فظهر ألوف بعد أن أصيب بنكبة اضطرته إلى نبشها.
وبلغ الشح ببعضهم أنه كان يطعم خدامه وأولاده طعاماً غير ما يطعمه نفسه وزوجه، ويدعى مع كل من يجتمع إليه أنه فقير مملق، لا طاقة له على تحمل شيء، فلما اضطر إلى الكشف عن دفائنه كانت ألوفاً عدا ما يسلفه بالربا الممقوت أضعافاً مضاعفة وعدا مزارعه وحدائقه. ومن الغريب أن يتطوع مثل هذا الرجل الذي رد إلى أرذل العمر في الجاسوسية وهو يتظاهر بالتقوى. وأكثر هؤلاء الأشحة يظهرون في العامة بمظهر المتصدقين والمحسنين، وكأن تجود نفوسهم ببعض دريهمات لبعض المستكدين على رؤوس الأشهاد، ليقال عنهم إنهم أهل خير وصلاح. وهناك رجل يكذب على قومه طول حياته الطويلة، بنسبه وعلمه وتقواه، فلم يعدم ضعاف العقول من صدقوه في دعاويه، وعاش بمداهنة الناس وبلغ من ثقة القوم به أنه إذا حانت منية أحدهم، يلوب على من يأتمنه على أولاده بعده، فلا يجد غير هذا المزوّر يقيمه وصياً على عياله لما اشتهاه من أمانته بين السذج في كل دور، فلا يلبث مال الموصي أن يمزق بيد الوصي. وهكذا كان هذا الدعي بعد نصف قرن من المشار إليهم المجمع على تكريمهم، وقد عرف أيام تنولي القضاء بتبرئة المجرم وتجريم البريء. ومن العجب أنه لم يسأله أحد من أين جاء بثروته، والعادة على الأكثر أن لا يسأل الغني عن طرق غناه بل يتمسح به ويتبرك بأنفاسه، ولو كان لا ينزل منه عن قطمير لأحد.
ظهر الكثير من العامة في حوادث وقعت بمظهر الغيراء على المصالح الوطنية، وأبانوا عن حمية وأريحية ما كان يرجى صدور مثلما من أرباب الطبقة العليا، ولا ممن اعتادوا أن يجعلوا من الأديان سلماً إلى درك شهواتهم، وقام من صفوف الأميين وأهل المتربة أُناس جعلوا هدفهم ما اعتقدوه حقاً نافعاً مخلصين في أقوالهم وأفعالهم، معتقدين الخير فيما بذلوا أنفسهم ونفائسهم في سبيله. وتجلى النبوغ في أفراد منهم بحكم قانون الرجعة، فأثبتوا في الشدائد بهذا الشرف المغيب أنهم ربما
كانوا من سلالة عظماء أكارم. وهناك أُناس ظاهرهم مهذب براق أثروا