وارتفاع هذا السقف المرفوع بغير عمد, ومجاري هذه الأنهار والبحار, علموا - والله - أن لذلك صانعا مدبرا, لا يعزب عنه مثقال ذرة من خلقه في السماوات ولا في الأرض, فعبدوه - والله - بدلالته على نفسه عبادة أنضت الأبدان, وأحالت الألوان, حتى كأنما عبدوه عن رؤية, فهم في الدنيا حية قلوبهم, ميتة جوارحهم, إلا عند الذكر والمناجاة والنهوض إلى طاعة الله.
قال: فبكى مالك يومئذ بكاء شديدا, ثم قام عشية إذ ولم يتكلم.
قال أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي الحافظ:
دخلت دمشق على كتبة الحديث, فمررت بحلقة قاسم الجوعي, فرأيت نفرا جلوسا حوله وهو يتكلم عليهم / فهالني منظرهم, فتقدمت إليهم فسمعته يقول:
اغتنموا من أهل زمانكم خمسا: إن حضرتم لم تعرفوا, وإن غبتم لم تفقدوا, وإن شهدتم لم تشاوروا, وإن قلتم شيئا لم يقبل قولكم, وإن عملتم شيئا لم تعطوا به. وأوصيكم بخمس أيضا: إن ظلمتم لم تظلموا, وأن مدحتم لم تفرحوا, وإن ذممتم لم تجزعرا, وإن كذبتم فلا تغضبوا, وإن خانوكم فلا تخونوا. قال: فجعلت هذا فأئدتي من دمشق.
قلت: فهذا وأمثاله هو ثمرة علم العلماء الذين يريدون الله بطلب العلم النافع, جعلنا الله منهم بفضله, ووفقنا لأن نكون من أهله.